-A +A
علي الرباعي (الباحة) Al_ARobai@
لم يخل قرن من قرون المسلمين وغيرهم، بما فيها القرون المفضلة، من دوغمائية، تتلقى كل ما تسمع وتقرأ عن الدِّين بالقبول، وتضعه موضع الحقيقة المطلقة، التي لا تقبل نقاشاً، ولا تحتمل ظناً، علماً بأن طرح مصطلح الحقيقة، يلغي فكرة التأمل والنظر والإضافة والإبداع، ويفرض الانغلاق، فيستحيل على باحث أو عالم أو دارس أن يضيف للحقيقة، طالما كانت مطلقة، فالحقائق المطلقة تفضي لنهاية النهايات.

ومن الصعوبة إجماع البشرية على حقيقة واحدة، مهما بلغت صدقيتها، ولكن يمكن الوصول لقدر من اليقين بالوحي، وبالعلم إلا أنه لا حقائق مطلقة، وفي ظل دعوى امتلاك حقيقة من أتباع دِين ما، ستتعدد الحقائق بتعدد الأديان والمذاهب والفلسفات ما يحتّم تزكية كل فريق لحقيقته، وهذا مدعاة لصدام الحقائق ببعضها، وحينها لا مناص من التمايز، والانتقال من صفحات المقال إلى ساحات الاقتتال، ولم تقتتل البشرية على شيء قدر اقتتالها على الدِّين والسُّلطة.


واعتاد الواهمون بامتلاك الحقيقة طرح سؤال ما موقعك ومن أي زاوية تنظر للحقيقة التي نحن موقنون بها؟ ومطالبتهم بإجابتك ليس لغاية النقاش، والبحث عما هو نسبي بين وجهتي نظر وأكثر، بل لإدانة أي قول يخالف قناعة مدعي الحقيقة، لذا يتوجّسون ريبة من كل متحفظ أو ناقد، فيسأل عن موقعك لكي يسهل عليه اتهامك، والحكم عليك، ثم التطلع لمحاكمتك بذريعة الاستخفاف أو الاستهانة أو الاستهزاء بالدِّين.

وأوضح المفكر المغربي الدكتور عادل حدجامي، أن تناول قضية الدين غالباً تتم في إطار الاستدلال، فينبري الباحثون إلى المنافحة، نظرياً عن معتقد ما وفق منهج عقلي، وكذلك يفعل المخالف، إذ ينبري هو بدوره، سواء كان مخالفا لهذا المعتقد خصوصاً، أو منكرا للاعتقاد في جملته بالعموم، إلى الرد وفق نفس المنهج، فيسوق حججا يعارض بها الحجج الأولى. وتساءل حدجامي «ماذا لو كان التدين أمرا يتجاوز الحجاج والنظر أصلا؟ وماذا لو كان سؤال الاعتقاد واقعا خارج مقولة الحقيقة؟ هل يبقى من قيمة معرفية لمثل هذا التناول؟

وأكد أنه منذ نهاية القرن التاسع عشر، حصل تحول عميق في كيفية تناول الظاهرة الدينية، تجسّد في اقتراح مفاهيم جديدة لفهم حقيقتها كظاهرة، مفاهيم يمكن تلخيصها في مقولة جامعة هي المعنى، والفهم يقتضي تحقيق ثلاثة أمور؛ أولها: الخروج من الفهم القطعي، وبالتالي السجالي، عن الدين. وثانيها: بيان الأصل الفلسفي الذي يقوم عليه هذا الفهم. ثالثها: بسط التصور الذي يمكن أن يكون بديلا عن هذا الفهم. ولفت إلى أن ما تسميه الفلسفة بـ«الدين الطبيعي»، الذي قال عنه سينيكا (الرسالة 117) بأنه «مشترك بين كل الناس»، على اعتبار أن «كل الناس يملكون فكرة ما عن الآلهة»، وعدّ العصر الوسيط عصر البحث الفلسفي بحثا خالصا في سبل التوفيق بين الحكمة والشريعة (الأرسطية الإسلامية) أو النص المقدس والحكمة الوثنية (اللاهوت المسيحي)؛ واستمر الأمر بعد ذلك مع العقلانية الفرنسية والمثالية الألمانية، ليغدو تاريخ الفلسفة تاريخا لمبحث الألوهية، احتلت فيه الثيولوجيا الصدارة، كما وكيفا. وأضاف، ليس الغرض أن نتحدث عن متون هذه الفلسفات تحديدا؛ أي ليس الغرض أن نبسط ما عرضته اتجاهاتها من قضايا وإشكالات بخصوص سؤال الألوهية، وجودا وعدما، فمن شأن ذلك أن يحول نقاشنا إلى حديث مضموني، وهذه على كل حال أمور قُتِلت درسا.

ويرى أنه على أي ما وجه قلّبت أمر تاريخ الميتافيزيقا هذا وتدبّرته، تجد أن ثابته الفلسفي الذي جعله ممكنا كان هو مقولة الحقيقة، فالفلسفات القديمة كلها، حتى في معمارياتها الأكثر بهاء، كانت تقف على أرضية واحدة، هي مسلمة الحقيقة، فانتهج كانط النقد للتفكيك، وكانت النتيجة المباشرة الأبرز، هي إخراج الدين من مجال الحقيقة، والألوهية من دائرة المعرفة، وإدخالهما معا في دائرة الإيمان، فالعقل ليس له أن يحسم في الإلهيات، وجودا وعدما؛ والنتيجة الثانية، وهي الأخطر في نظرنا، هي التخلي عن مقولة الحقيقة نفسها، فلم تعد غائية الحقيقة ومعياريتها أمرا مسلما به، ومقولة إن الناس تحيا وتمتحن وجودها وتموت لأجل الحقيقة، صارت مع بداية القرن التاسع عشر محض افتراض أخلاقي لا دليل عليه، وإن الذي مكن من هذا ابتداء هو كانط، والذي أبرز مؤدياته واستثمرها هو نيتشه، حين بيّن أن الحقيقة هي، أولا، حقائق، ليس فقط بالمعنى الكمي السوفسطائي القديم فقط، بل كذلك بالمعنى المنظوري، فالحقيقة ليست نسبية، بل هي على الأخص منظورية؛ فالحقيقة قائمة، وذهب أن الحل العملي قبل النظري هو في الدفاع عن الاختلاف، وهذا شيء نوافق عليه، شريطة أن نتصوره اختلافا جذريا، اختلافا لا يسعى لأية غاية اتفاق؛ فالإيمان بالاختلاف لا تكون له من قيمة فعلية، إلا حين يجرب ذاته في ما هو جذري، أي في السياسة والدين.