الممثلة الفرنسية آني رومو حفيدة الناجية سيربوهي تعرض صورة لجدتها من ألبوم الذكريات.
الممثلة الفرنسية آني رومو حفيدة الناجية سيربوهي تعرض صورة لجدتها من ألبوم الذكريات.






سيربوهي مع حفيدتها آني.
سيربوهي مع حفيدتها آني.






وثيقة السفر الخاصة بالناجية سيربوهي.
وثيقة السفر الخاصة بالناجية سيربوهي.






ماخطته بيدها سيربوهي هوفاغيان.
ماخطته بيدها سيربوهي هوفاغيان.






غلاف كتاب «مسيرات الموت.. مذكرات إحدى الناجيات».
غلاف كتاب «مسيرات الموت.. مذكرات إحدى الناجيات».
-A +A
أسماء بوزيان (باريس) emmaaska2@
«مذابح الأرمن» واحدة من أسوأ الجرائم ضد الإنسانية التي راح ضحيتها نحو مليون ونصف المليون أرمني على يد العثمانيين الذين يلاحقهم العار منذ أكثر من 100 عام. ويكشف التاريخ أنها لم تكن مذبحة واحدة بل مذبحتين تفضحان أحفاد العثمانيين وحكامهم حتى اليوم، إذ يواجهون تنديداً دولياً وغضباً واسعاً باعتبارها «إبادة جماعية»، ليس آخره صفعة أمريكا لأردوغان، في خطوة تاريخية لم تتوقعها أنقرة، باعترافها أن مذابح الأرمن «إبادة جماعية» ارتكبتها الدولة العثمانية إبان الحرب العالمية الأولى عام 1915 بأغلبية ساحقة بـ405 أصوات.

ومع إحياء الذكرى الـ104 لارتكاب هذه المذبحة على يد القوات العثمانية في الفترة ما بين ربيع 1915 وحتى خريف 1916، لا تزال وقائع تلك الأحداث تلقي بظلالها على علاقات تركيا الخارجية، حاملة في طياتها آلام ومعاناة الشعب الأرمني، فاضطهاد الأقليات وسياسات التطهير العرقي التي انتهجها الجيش العثماني بقيت على مدار عقود زمنية حبيسة الرفوف على مرأى ومسمع الدول الراعية للحريات والحقوق ومكافحة التمييز العرقي، إلا أن الأمر لم يبق على حاله، ففي بداية القرن الـ20 طفت مذبحة الأرمن على السطح، وتحولت بفضل بعض الشهادات الحية إلى منابر المنظمات الحقوقية وأجبرت الدول التي تربطها مصالح تجارية واقتصادية مع تركيا إلى الدخول في صف مطالبي أنقرة بالاعتراف بتلك الجرائم.


المذكرات من فرنسا إلى العالم

وتحت عنوان: «مسيرات الموت.. مذكرات إحدى الناجيات»، فضحت إحدى الناجيات وتدعى «سيربوهي هوفاغيان»، في كتاب جديد، التاريخ الأسود للعثمانيين، وقد عايشت المذبحة على مدار أشهر كاملة، إذ كان عمرها آنذاك 22 عاما. ورغم كل المحاولات التركية للتنصل من الجريمة التي ستظل تلاحقها أبد الدهر، عادت مذبحة الأرمن إلى الواجهة الدولية بعد صدور هذه المذكرات التي اكتشفتها حفيدة سيربوهي ونشرتها من فرنسا إلى العالم. مأساة الأرمن هلك فيها أكثر من ثلثي السكان الذين يعيشون على الأراضي التركية بعد أن هجرتهم السلطات العثمانية قسرا نحو صحارى العراق وسورية تحت وابل من التعذيب والتجويع والانتهاك والقتل الجماعي للأطفال الذين رموا بهم في النهر. دامت تلك المسيرات أشهرا كاملة وثقت فيها «هوفاغيان» تفاصيل مهمة عن جرائم الجيش التركي في «كراسات» احتفظت بها سرا كمذكرات يومية، تحدثت فيها عن تفاصيل بشعة لجرائم ضد الإنسانية.

تمكنت سيبوهي من الفرار من مسيرات الموت حاملة معها مذكراتها ولم تلتفت لها عبر السنين حتى توفيت في أغسطس 1976 تاركة ما دونته من جرائم الإبادة العثمانية بلغة أرمينية ويونانية لم ينتبه لها أحد.

وفي عام 2014، عادت هذه القضية إلى واجهة الإعلام الفرنسي بعد أن اكتشفت الممثلة الفرنسية المعروفة آني رومو (68 عاما) مذكرات جدتها وسط كومة من الأوراق والصور التي كاد اصفرار أوراقها أن يأتي على الكتابة الرفيعة والخط الجميل.

بدأت رومو في تصفح الأوراق وقراءة محتواها، وأدركت أنها وقعت على كنز تاريخي يروي تفاصيل ظلت مبهمة للعالم، واستطاعت أن تشد السطور الأولى التي كتبتها جدتها بإتقان انتباهها رغم أن الزمن أتى على بعض الحروف التي بهت حبرها، لكن السرد المتسلسل للأحداث الأليمة التي خُطط لها من قبل الجيش التركي جعل هوفاغيان تكتب شهادتها بأدق التفاصيل وبلغة سلسلة وواضحة، نقلت من خلالها معاناة الأرمن من أول يوم من بدء مسيرات الموت.

كانت مذكرات الجدة موسومة بالألم والمعاناة، خصوصا أن الأتراك كانوا ينتهجون من البداية خطة الإبادة الجماعية.

من هي سيربوهي هوفاغيان؟

تقول آني رومو: كانت بعض الفقرات مكتوبة بلغة غير مفهومة لدي، ولكنني اكتشفت أنها لم تكن سوى اللغة الأرمينية، بينما كتبت البقية بلغة فرنسية مقروءة، كانت تسرد فيها قصة فرارها من المجزرة التركية. كانت سيربوهي واحدة من الناجيات القلائل من مذابح الجيش العثماني. ولدت في 22 يونيو 1893 في مدينة سامسون على شواطى البحر الأسود في تركيا. لم تبق في هذه المدينة لفترة طويلة. غادرتها رفقة والديها، إذ كان والدها يجوب أوروبا رفقة عائلته، وكان يعمل مهندسا في شركة السكك الحديدية المسؤولة عن بناء الخط الذي يربط برلين ببغداد. فكان يصطحب زوجته وأولاده الـ4 في رحلاته المهنية. تلقت سيربوهي مع بقية أشقائها تعليما مميزا، إذ كانت تتردد على أفضل المدارس، ففي الناصرة بفلسطين، تعلمت الفرنسية على يد راهبات الدير، وكانت تتقن التركية والأرمنية التي تتحدثها بطلاقة. وفي سن الـ13 أصيب والدها بالتهاب «الصفاق» وتوفي بعد معاناة مع المرض، واضطرت العائلة إلى العودة لسامسون. في 1909 تزوجت سيربوهي من تاجر تبغ مشهور يدعى كارنيت كابامادجيان، واستقرت رفقة عائلتها الصغيرة بعد أن رزقت بولد (جيرار) وبنت (عايدة). استقر الوالدان (كارنيت وسيربوهي) في مدينة ساحلية شمال الأناضول تدعى طرابزون، وفي أوائل أغسطس 1914 بدأت بوادر حرب كبيرة يأتي وقعها من الغرب. وأثناء اندلاع الحرب وقع الحزب التركي الحاكم، ممثلا في حكومة لجنة الاتحاد والتقدم، اتفاقية سرية مع ألمانيا لتجنيد الشباب الأتراك في الجيش، إلا أن الأتراك بدأوا في تجنيد عشرات الآلاف من الشباب الأرمن الذين تراوح أعمارهم بين 20 و40 عاما في الجيش الـ3، مثلما ذكرت سيربوهي في مذكراتها.

خطة حزبية للإبادة

وبحسب مذكرات سيربوهي، فإنه بعد مرور 4 أشهر، وتحديدا في 3 نوفمبر 1914، دخلت الإمبراطورية العثمانية في الحرب إلى جانب ألمانيا والنمسا والمجر، وتأزم الوضع أكثر، وبدأت بوادر أزمة تطفو على السطح بعد عمليات الإبادة ضد الأرمن تنفيذا لخطة وضعها قادة حزب الشباب التركي. حاول الأتراك إخفاء تلك الجرائم، إلا أنه بعد انتهاء الحرب بدأ التحقيق لتحديد المسؤولين عن المذابح، وأفضى التحقيق آنذاك عن خطة الإبادة التي وضعها قادة حزب الأتراك الشباب.

وكشفت التحقيقات أن خطة الإبادة بدأت بـ4 مراحل، كانت أولها في فبراير 1915 عندما أمر وزير الحرب إنفر باشا الأول بنزع سلاح الجنود الأرمن الذين يقاتلون في صفوف الأتراك وإرسالهم إلى «الكتائب العُمالية»، ودفع المجندين الأرمن في الجيش الـ3 إلى الأعمال الشاقة كالحفر أو النقل. وكان الجنود الاتراك يتبعون أسلوب الإبادة الجماعية لهؤلاء المجندين، إذ تقتاد مجموعات من 50 إلى 100 أرميني بانتظام من أفواجهم لنقلهم إلى أماكن أخرى وإعدامهم.

أما المرحلة الثانية، كما جاء في المذكرات، فقد بدأت في نهاية شتاء 1915، عندما تم إطلاق حملة تضليل في الإعلام لإعداد الرأي العام لحملة الإعدامات في صفوف الأرمن، بحجة أنهم يدعمون القوات الروسية في القوقاز، متهمين إياهم بالخيانة في مساندة الوفاق الثلاثي الموقع بين فرنسا وبريطانيا العظمى وروسيا. وبذلك دفع الأتراك إلى القضاء الأرمن بشكل عاجل ونهائي.

بعد تلك الحملة، تعرض الأرمن لأشد الانتهاكات، فنهبت منازلهم ومتاجرهم، وأعدمت الشخصيات البارزة في الأماكن العامة. وأصبح الوضع يشكل خطرا على كل أرميني، ما دفع الكثير منهم إلى اللجوء إلى فرنسا مثلما كان الحال بالنسبة لـ«آني» والدة سيربوهي وإخوتها.

استمرت خطة الإبادة التي قادها الأتراك الشباب ودخلت مرحلتها الـ3 باستهداف رجال الدين والمثقفين والسياسيين الذين يتم القبض عليهم وإعدامهم. فكان مصير 650 مثقفا، تم إعدامهم في محيط القسطنطينية، دليلا واضحا على أن الأتراك ينتهجون سياسة الإبادة الجماعية، إذ توسعت الدائرة إلى المناطق الأخرى التي يعيش فيها الأرمن.

وفي 26 يونيو 1915، ألقي القبض على النبلاء من الأرمن، وعددهم 42 شخصية، بينهم زوج سيربوهي. وفي اليوم التالي اقتيدوا على متن مراكب وأغرقوا قبالة ميناء المدينة بلاتانا.

الإبعاد والترحيل النهائي

بعد الإعدام العلني، دخلت خطة الإبادة مرحلتها الأخيرة وهي الترحيل النهائي بحجة الإبعاد عن مسرح العمليات العسكرية، فتم استدعاء السكان للمغادرة من كل القرى والبلدات والمدن، فتشكلت مجموعات من النساء والأطفال والرجال المسنين (الغالبية العظمى من الرجال)، اقتيدوا مشياً على الأقدام، وهم يحملون معهم الحد الأدنى إلى وجهة مجهولة.

في ليلة 2 و3 يوليو من السنة نفسها، أي بعد أسبوع من مقتل زوجها، أُخرجت سيربوهي وابنها جيرار من منزلهما وألقيا في الشارع. حاولت سيربوهي الاستفادة من الفوضى التي أصابت الشارع، وهرعت إلى المستشفى، حيث كانت طفلتها عايدة تقبع هناك قبل بضعة أيام. وعندما وصلت إلى المستشفى، اكتشفت أن طفلتها ماتت وكذلك جميع الأطفال الأرمن المقيمين في المستشفى. حاولت أن تتحرى الوضع لكن الجنود الأتراك اعتقلوها وألقوا بها ضمن «القطيع» البشري الذي أُقتيد جبرا نحو الجنوب. كانوا يظنون أنه سيتم نقلهم إلى قرى أخرى من أجل حمايتهم، لكنهم نقلوا إلى الصحارى السورية وتركوهم دون مأوى وغذاء، وكان الهدف الإبادة الجماعية لهم.

تطهير عرقي ورحلة بلا عودة

دونت سيربوهي رحلتها الطويلة في قوافل الموت في «كراسات»، فوصفت لحظات الإبادة التركية للأرمن لحظة بلحظة، وتقطعت أوصال الأمل وهي ترى أطفالا يلقون أحياء في الفرات، وكانت الفاجعة أنها أدركت أن هذه القوافل ما هي إلا تطهير عرقي مقصود.

انطلقت قوافل طويلة لتشق طريقها عبر كبادوكيا التركية إلى صحراء سورية والعراق، وسيربوهي التي تسير إلى الأمام ممسكة بيد طفلها جيرار، لم تفهم في البداية أنها رحلة بلا عودة، تقول حفيدتها في التعليق على مذكراتها: وكتبت الناجية الأرمينية: «سيختفي الأرمن مثل دخان السجائر، سيبقى فقط الرماد، ووحدها الأرض ستنقذنا». وتضيف: «الرحلة لا نهاية لها، كنا نسير دون أكل ولا شرب لمدة 6 ساعات في اليوم. لم تكن النهاية واضحة لنا. الشيء الوحيد الذي يتراءى لنا هو سراب الصحراء الذي يصحبه الموت البطيء. لم ترأف قلوب الجنود الأتراك لحال الأطفال والشيوخ. كل شيء كان يوحي أنه الموت المخطط له. كان الشيوخ والأطفال يسقطون كالذباب وآخرون يسقطون تحت رصاص الجنود، حين يعرقلون السير».

بعد أيام وأيام من السير، أدركت سيربوهي أنها لن تستطيع إنقاذ طفلها جيرار، فاستغلت وقت التوقف بإحدى القرى الصغيرة لتعهد ابنها لإحدى القرويات المسلمات التي رأفت بالطفل الذي كان شبه ميت. تقول في مذكراتها وهي تروي لحظة توديع طفلها: «أغلقت عيني حتى لا أسمع، ولا أرى دموعه وهو يصرخ ويتشبث بي».

بعد 25 يوما من المسيرة القسرية، تصل القافلة إلى أرزينجان على ضفة الفرات. حينها أجبرها جندي على الخروج من المجموعة «خبأني الجندي في منزل برفقة 3 أشخاص كانوا مصابين حد الموت. أما أنا فقد كنت منهكة لا أقوى على الحركة، وبعد قضاء 3 أيام ملقاة على فراش من القش في هذا الكوخ غير الصحي اكتشفنا جنود آخرون فألحقوني بقافلة جديدة تتألف بشكل حصري من النساء. وهكذا استمرت رحلة العذاب، المشي كان مثل سياط تنهش أجسادنا». تقول سيربوهي: كانوا يرمون الأطفال في نهر الفرات، فتطفوا جثثهم فوق سطح الماء، وأذرعهم وأرجلهم لا تزال تتحرك تحاول التشبث بالحياة، شعرنا بصدمة شديدة، وكان هؤلاء الوحوش ينظرون إليهم بقهقهات ساخرة. وتضيف في مذكراتها: أسراب المنظمة الخاصة التي تأسست سراً في نوفمبر 1913 لإبادة الأرمن تم كشف وجودها في مايو 1919، والتي كانت تقود الأرمن المبعدين من تركيا إلى مسالخ الإعدام. ووفقا للتقارير، تم إعدام ما يصل إلى 25 ألف شخص يوميا، وإلقاء عشرات الآلاف من النساء والأطفال في نهر الفرات، وكان الجنود ينزلون لحافة النهر لإعدام الناجين من الغرق الذين لم يجرفهم التيار.

ولحسن حظ سيربوهي- كما تقول حفيدتها «آني مورو»، أنها لم تعرف تلك النهاية البشعة، فعند توقف القوافل بإحدى القرى، وقبل وصولها مباشرة إلى المضيق، قررت الفرار مع إحدى قريباتها ونجحت في ذلك.