عبدالله عوبل
عبدالله عوبل
-A +A
حوار: سعيد الجعفري (عدن) saeed_aljafare@
الدكتور عبدالله عوبل مثقف اليمن وأديبها وأستاذ علم الاجتماع في جامعة عدن ووزير الثقافة اليمني السابق، يأخذنا في هذا الحوار الرمضاني، لـ«عكاظ»، في حديث مفعم بالذاكرة الحية المتقدة، والأحداث التي عاشتها اليمن ومرت عليه طفلاً بكل بتفاصيلها المثيرة والمدهشة وكان جزءاً منها وساهمت في تشكل وعيه، ليصبح لاحقاً واحداً من أكثر الشخصيات تأثيراً وسياسياً حصيفاً ومثقفاً واعياً تمتلئ الساحة بحضوره الفاعل والمميز، ومدرّساً جامعياً يزهو طلابه فخراً به، ويتسابقون على مقاعد المحاضرات في حضرته.. وهنا في حوار أردناه خفيفاً، تمرد المثقف على الأسئلة واسترجع السياسي مذكراته ليضعنا في حوار مزيج من كل شيء..

• كيف كان قدومك إلى الدنيا، وهل كان ليلاً أم نهاراً ؟


•• «البداية شيء لا يشبه الحبو ولا الخطوة الأولى. هنا الإذن شرطي للمرة الأولى.. عيناي تسجل اللحظة في شريط أبدي.. حين تعرفت علي.. أتذكر المكان ونسيت الزمان.. أتذكر شخصاً ونسيت البقية.. أتذكر الأشجار ولون التراب والطريق إلى منزل جدتي.. في هذه اللحظة تحولت من كتلة صماء إلى إنسان، كأن الانفجار الأول للشمس قد بدأ.. أمي ما زالت إلى الآن تراني واقفاً عند تلك اللحظة».. تلك استهلالة من أدب السيرة الذاتية.. ووالدتي أطال الله عمرها تعيش وما زالت ذاكرتها جيدة، إذ قالت إني جئت إلى الدنيا عند الفجر، وإنها كانت ولادة طبيعية.

لحظات الوعي والإدراك

• على ماذا استيقظ وعيك المبكر من الأحداث والمواقف والناس ؟

•• يمكنني القول، إن الإنسان يتذكر لحظة إدراكه العالم المحيط به، لحظة وعيه بما حوله.. وهي لحظة فاصلة بين الطفل غير المدرك والطفل المدرك لعالمه حوله، وإن أسماء الأشياء والناس والعلاقة مع من هم حوله تتكون قبل ذلك، ولكنها تدخل مرحلة التطبيق في لحظة الإدراك هذه مكانياً وزمانياً.. تلك تجربتي الشخصية لا أدري إن كانت لها صفة العمومية.. هذا لم نتعلمه في علم الاجتماع التربوي، التخصص الذي درسته وأدرّسه لطلابي.. إنها تجربتي الشخصية.. أتذكر أنني لأول مرة أتعرف على الناس، لا أدري في أي سنة، ولكني لأول مرة وعيت الدنيا عند العصر مع مجموعة من الفتيات والفتيان، كانوا يجلسون ويتحدثون.. لا أتذكر ما يقولون، بل ما زلت أتذكر وجوه بعضهم وأسماءهم.

• ما الذي تتذكره من مواقف خلال سن الطفولة ؟

•• بنت الجيران، وكانت أكبر مني سناً، ونحن نعتمد على الدواجن والأنعام.. بائع الحلويات الجوال في القرية جاء باكراً، هي تريد الحلوى، الدجاجة لم تبض بعد، فأخذت السكين وقطعت بطن الدجاجة وأخرجت البيضة. هنا يقال، إن سكان الوديان والسهول قليلو الصبر، هي حادثة عابرة وتعكس تأخر النضج لدى بعض الأطفال. لكن هذه الطفرة - إذا جاز لي التعبير - من الطفولة اللاواعية إلى الأنسنة ليست سوى مرحلة أولى من الوعي بالأشياء والعلاقات الاجتماعية البسيطة كأصدقاء اللعب مثلاً.

• ماذا عن ذكريات المدرسة ؟

•• كانت المدرسة تبعد عن قريتنا أكثر 2 كيلومتر، تفاصيل اليوم الأول كانت عادية.. أخي الأصغر قطع درساً من المطالعة (كتاب اللغة العربية)، ولأن النظام في المدرسة شديد، يتم الضرب إذا جئت بجزمة دون تلميع، أو بقعة في قميصك الأبيض، وتضرب في الطابور الصباحي أمام جميع طلاب المدرسة.. لن أذهب غداً إلى المدرسة، في حين قرر والدي أن يأتي معي ليعتذر وهكذا كان.. كنت ملتزماً بالنظام حتى أكملت السنة الرابعة والانتقال إلى المدرسة المتوسطة، في المدرسة نسيت بعض أسماء المعلمين.. لكنني تذكرت كتابي المقطوع منه درس المدفع، رمينا سيارة بالحجارة، الإذاعة تتلو أسماء الناجحين من الابتدائية إلى المدرسة المتوسطة بزنجبار حاضرة سلطنة الفضلي.. هنا مجتمع جديد واسع.. دروس الإنجليزية نتعلمها على يد الأستاذ كردفاني السوداني.

مصطلحات السياسة

• ما الذي تحتفظ به ذاكرتك أيضاً لتلك الفترة الماضية المليئة بالأحداث والمزدحمة بالمواقف والتفاعلات، وكيف تشكل فهمك لها ؟

•• في العام 1971، بعد 4 سنوات من الاستقلال، بدأت أقرأ وأسمع مصطلحات السياسية.. سمعت مصطلح الثورة في 1962، 1963، والناس يجتمعون على تلة في قريتنا يستمعون إلى أصوات المدافع في ردفان، كان القتال بين الجبهة القومية والمستعمرين الإنجليز.

ردفان وخطابات عبدالناصر «على بريطانيا أن تحمل عصاها وترحل من جنوب اليمن».. ووصف الإذاعة البريطانية BBC ثوار الجبهة القومية بـ«الذئاب الحمر»، وهو ما كان يجعل الناس هنا يفاخرون بالقدرات والإرادات القوية لثوار الجبهة القومية لتحرير الجنوب اليمني المحتل من الإنجليز.

لا أعرف ماذا يعني أن تكون عضواً في خلية تنظيمية للجبهة القومية التي تحولت من مقاومة الاحتلال البريطاني إلى حزب حاكم في جمهورية اليمن الديمقراطية بعد 4 سنوات من الاستقلال.. عضو في التنظيم في المرحلة الإعدادية.. في الإعدادية حين كان هادي حمادة يقرأ علينا نصوصاً من وثائق الجبهة مثقلة بالمصطلحات والتنظير، والواقع أننا كنا نسأل ولم تكن حتى الإجابات مفهومة.

لكننا رافقنا مسيرة الانتقالات الدراماتيكية في حياة التنظيم، حتى حلت كارثة يناير1986.

• ما القرارات التي اتخذتموها في تلك المرحلة من العمر ويمكن اعتبارها خطأ، إن صح التعبير ؟

•• لأول مرة مارسنا حق الإضراب في غير مكانه، كان ذلك في صيف 1973. رفضنا دخول الامتحان في السنة الثانية الثانوي، إذ تم إعفاء زملاء لنا ذهبوا مهرجان الشباب العالمي في كوبا من دخول الامتحانات، فاعتبرنا ذلك تمييزاً لهم.. جاءنا مسؤول التنظيم في أبين جاعم صالح (رحمه الله)، أغلق علينا باب القسم الداخلي وقال: «إما أن تدخلوا الامتحان أو تحاسبوا على الأكل الذي أكلتموه في القسم الداخلي».. فذهبنا للامتحان. اليوم أستطيع القول، إننا لم نكن نحن فقط المخطئين، بل قرار السلطات السياسية والتعليمية كان أيضاً خطأ جسيماً بحق الزملاء الذين كانوا في كوبا.

ثوريون متحمسون نحن أكثر من الثوار أنفسهم، تلك روح المزايدة، لم ندخل حصص اللغة الإنجليزية باعتبارها لغة المستعمر، في حين كان زملاؤنا الذين سبقونا في الثانوية في كلية الاتحاد يتخرجون مترجمين.. يذكرنا ذلك بحادثة طرد خبير الري الوحيد في منطقتنا «دلتا أبين».. فقد قام بعض الثوار بإبعاد السيد جعفر عيدروس خبير الري وتهديده باعتباره من رجال العهد البائد، مما اضطره للهروب إلى منطقته الوهط في محافظة لحج. وعندما أتى السيل لم يكن أحد قادراً على توزيع المياه في القنوات، فجاء الرئيس سالمين (رحمه الله) يسأل: أين السيد جعفر؟ قالوا إنه من رجال العهد البائد، فغضب الرئيس وذهب إلى منزله في الوهط في الثانية ليلاً ليحضره معه ويعتذر له نيابة عن الراديكاليين.

مظاهر العلاقات

• ما الميزة التي كنت تشعر أنك تتميز بها عن أقرانك ؟

•• في المرحلة الإعدادية والثانوية عندما كنت عضواً نشيطاً في لجنة المدرسة الثانوية للاتحاد الوطني للطلاب، ما زلت لم أعلم جيداً تعقيدات التفاعل الاجتماعي والدور الذي يجب أن أؤديه في سياق هذا التفاعل. طبعاً حينها بما لدي من ثقافة مدرسية بسيطة كنت أظن أنني أؤدي دوراً مثالياً في خدمة المجتمع من خلال التعليم والأنشطة التي من خلالها نساهم في محو الأمية، وذهابنا إلى قرى بعيدة جداً مشياً على الأقدام لتعليم الكبار. كان هذا تجاوباً مع الحالة العامة لما بعد الاستقلال في 30 نوفمبر 1967.

لكني لم أفهم الأحداث السياسية التي رافقت الاستقلال بعد ذلك مثل القتال الدامي بين الجبهة القومية وجبهة التحرير، عشية الاستقلال، ثم الصراع على السلطة بعد ذلك داخل تنظيم الجبهة القومية الحاكم. لذلك يمكن القول، إن اكتساب الوعي في فهم العلاقات الاجتماعية عملية معقدة جداً، فهناك صراعات سياسية مظهرها لا يعكس حقيقتها، وتغطى المصالح بغلاف من الأيديولوجيا التبريرية التي تخفي حقيقتها.

رمضان زمان

• كيف كان رمضان زمان، وما العادات والطقوس التي كان يتسم بها ؟

•• رمضان زمان كان مناسبة لاجتماع الناس مساء، وتوحيد مناسباتهم، فالأكل قبل الإفطار يتوزع بين البيوت «أخذ وعطاء». فالسكان قليلون ومعظمهم تربطهم علاقات قرابة. أما مائدة العيد فتجمع كل صحون القرية إلى ساحة في الوسط يجتمع فيها جميع الرجال كباراً وصغاراً.

ليلة غرة رمضان لا بد أن يصحو من النوم جميع أفراد العائلة، بما فيهم الأطفال، هذه عادة من عادات القرية.

• متى بدأت صيام رمضان ؟

•• بدأت الصيام في سن الثامنة تقريباً، ولكني لم أكمل يومي، ولم أنتظم في صيام الشهر كاملاً إلا في الـ10 من عمري.

وجبتا السحور والإفطار

• أي الطبخات أو الأكلات أو الأطباق تحرص على أن تكون على مائدتك الرمضانية ؟

•• السحور في رمضان خبز ملوح مع حليب، أو فتة خبز مع الحليب، وأحياناً مع الحقين. والإفطار شوربة مع القروع والسمبوسة واللاجئة، ولاحقاً العشاء خبز موفا مع صينية خضار وسمك أو دجاج أو لحم غنم.

• ماذا عن أصدقائك، هل ما زال التواصل قائماً بينكم ؟

•• لدي أصدقاء كثر.. منهم أصدقاء الطفولة، ثم أصدقاء الدراسة في الخارج، حيث درست الماجستير والدكتوراه في جمهورية بلغاريا.. وهؤلاء الأصدقاء ما زلت أحتفظ بالتواصل المستمر مع بعضهم.

الحنين إلى الماضي • لماذا يسكننا حنين لأيامنا الأولى في الحياة، وما عادات الماضي التي تفتقدها الآن ؟

•• في الواقع يزيد الحنين إلى الماضي بعد سن الـ50، فهنا يبدأ الإحساس بأن السنوات تمضي بسرعة، ونحن بطبيعة الحال في اليمن لم يكن حاضرنا أفضل من ماضينا، الحنين إلى الماضي لأن الحياة كانت بسيطة وسهلة وحاجاتنا كانت بسيطة، فنحن في القرية أو الحي في المدينة نعرف بعضنا، والبيوت مفتوحة وهناك تداخل شديد بين العائلات، وكانت النساء لا تتحجب كأننا أسرة واحدة. اليوم نحن نستعيد ماضينا للهروب من واقعنا المؤلم، إضافة إلى الذكريات التي تمثل أجمل أيام العمر، ولكن تجاربنا تنمو ونتعلم أكثر ونتعرف على الواقع أكثر.