مع الملك فيصل في افتتاح أحد معارضه الفنية المبكرة بجدة في الستينات.
مع الملك فيصل في افتتاح أحد معارضه الفنية المبكرة بجدة في الستينات.
رضوي برفقة بعض طلابه.
رضوي برفقة بعض طلابه.




مع الملك سلمان في ماربيا بمناسبة افتتاح أحد معارضه الفنية.
مع الملك سلمان في ماربيا بمناسبة افتتاح أحد معارضه الفنية.




 من أعمال رضوي التي وضعته على خريطة الرواد في الفن التشكيلي السعودي.
من أعمال رضوي التي وضعته على خريطة الرواد في الفن التشكيلي السعودي.




«جرة الفول» أحد أعمال رضوي الجمالية لمدينة جدة.
«جرة الفول» أحد أعمال رضوي الجمالية لمدينة جدة.
-A +A
قراءة: د. عبدالله المدني *
رغم أن حركة الفن التشكيلي في بلدان منطقة الخليج بدأت متأخرة عن البلاد العربية الأخرى، إلا أنها تأثرت بها نسبيا. لكنها في الوقت نفسه تميزت عنها بفعل ما يجمعها ويوحدها من عوامل ثقافية وفكرية واجتماعية وحضارية انعكست كلها في أعمال فناني المنطقة. وتذكر لنا الموسوعة العربية تحت عنوان: «الفن العربي الحديث والمعاصر» أسماء العديد من رواد الفنون التشكيلية ورموزها في البحرين (التي سبقت بقية أقطار المنطقة في هذا المجال بسبب اختلاف أصول تكوينها وأسبقية انفتاحها على مظاهر العصرنة والتمدن، ناهيك عن بدء التعليم النظامي فيها قبل غيرها) ثم الكويت فالمملكة العربية السعودية فقطر فدولة الإمارات العربية المتحدة فسلطنة عمان.

وبالنظر إلى المملكة العربية السعودية التي ينتمي إليها صاحب موضوعنا الفنان التشكيلي الكبير عبدالحليم رضوي الملقب بالبروفيسور.. ولأسباب كثيرة لا نريد الخوض فيها، تأخرت الحركة الفنية التشكيلية السعودية في الظهور وإبراز المواهب وإقامة المعارض وابتعاث الموهوبين. فهذه المظاهر، كلها أو بعضها، لم تشهدها المملكة قبل عقد الستينات من القرن الماضي. ذلك أن أول معرض فني في تاريخ منطقة الحجاز والمملكة العربية السعودية عموما كان ذلك الذي نظمه رضوي في عام 1965 بنادي البحر الأحمر بجدة بحضور لفيف من الوجهاء مثل التاجر سليمان أبوداوود ومدير مدارس الثغر النموذجية محمد عبدالصمد فدا، علاوة على الصحفيين والمهتمين بالفن.


أما ثاني معرض فني للوحات التشكيلية في المملكة، فقد كان ذلك الذي أقامه بنادي النصر في الرياض في عام 1967 الفنان السعودي محمد موسى السليم المولود في «مرات» بوسط السعودية في عام 1938 والمتوفى وحيدا داخل شقته في إيطاليا في يوليو 1997. ويعتبر السليم أيضا أول من أسس دارا للفنون لتأمين حاجات الرسامين والفنانين المحليين، علما بأن الرجل قد مارس تدريس مادة التربية الفنية في المدارس السعودية لسنوات طويلة، وتعاون لسنوات أخرى مع التلفزيون السعودي كمهندس للديكور، وهو العمل الذي منحه بعثة دراسية إلى إيطاليا للتخصص في الديكور، قبل أن يصبح مفتشا لمادة التربية الفنية ويحصل في عام 1970 على بعثة دراسية جديدة إلى أكاديمية الفنون الجميلة بمدينة فلورنسة الإيطالية.

وإذا كان تدرج السليم في الوظائف الرسمية هو الذي ضمن له بعثة دراسية إلى وطن الإبداعات الفنية، فإن حكاية رضوي كانت مختلفة تماما، فهذا الذي ولد في حارة أجياد بمكة المكرمة في عام 1939، وتيتم بفقد والده في السابعة من عمره، وتحمل أعباء أسرته كونه ابنها الأكبر منذ أن بلغ التاسعة بائعا للحلوى على الحجاج والمعتمرين تارة ومطوفا لهم تارة أخرى، نمت لديه موهبة فنية لم يستطع إشباعها بسبب عدم توفر أي مظهر من مظاهر الحركة الفنية آنذاك في مسقط رأسه أو في الجوار. لكنه رغم طفولته القاسية وأعبائه الأسرية الثقيلة تمكن من إنهاء دراسته الثانوية في عام 1958 واتبعها بقرار جريء تمثل في القيام بمغامرة الرحيل صوب روما لصقل موهبته الفنية بالدراسة الأكاديمية، ولكم أن تتخيلوا حجم معاناة شاب فقير قليل الخبرة في عاصمة أوروبية كبيرة في خمسينات القرن الماضي.

لقد قاسى رضوي الكثير في رحلة تغربه من أجل الفن، ودليلنا هو أنه كان يوزع وقته في إيطاليا ما بين الدراسة وأداء بعض الأعمال اليدوية كطلاء الجدران من أجل توفير قوته اليومي. وشاءت الأقدار أن يلتقي في عام 1961 -وهو لم يزل طالبا- في أحد المعارض الفنية في روما بالسفير السعودي آنذاك لدى إيطاليا المرحوم الشيخ عبدالرحمن الحليسي، فيقرر هذا الأخير، من باب التشجيع التقدير له، أن يضمه إلى البعثة الحكومية حتى إكمال دراسته وحصوله على ليسانس في فنون الديكور من كلية الفنون الجميلة بروما، وهو ما حققه رضوي في عام 1964، ليدخل التاريخ كأول فنان سعودي مؤهل أكاديميا من كلية أوروبية معترف بها. لم يكتف الرجل بالشهادة التي حصل عليها إذ وجدها أقل من طموحه، فعاد إلى مقاعد الدراسة مجددا للحصول على درجته الأكاديمية العليا التي نالها في عام 1979.

بعد تخرجه عاد رضوي إلى بلاده، وسرعان ما دشن معرضه الأول بجدة في مارس 1965 على نحو ما أسلفنا، ثم راح يستثمر وقته في إنتاج أعمال بلغ عددها قبل وفاته في الخامس من مارس 2006 بالمستشفى التخصصي بجدة إثر نوبة قلبية نحو 3300 عمل ما بين الرسم والكولاج والنحت والمجسمات الجمالية والجداريات. غير أن ما جعل رضوي يتمتع بشهرة ومكانة رفيعة في القلوب هو قيامه في عام 1968 بتأسيس «مركز الفنون الجميلة» بجدة كأول مؤسسة أهلية معنية بالفن، علما أن المركز ظل يعمل منذاك وحتى سنة 1974 حينما أغلقه صاحبه بداعي السفر إلى مدريد لنيل درجة الدكتوراه في الفن من كلية سان فيرناندو للفنون الجميلة، وهي كلية عريقة تأسست عام 1741 وتخرجت منها شخصيات فنية عظيمة مثل فرانسيسكو جويا وبابلو بيكاسو وسلفادور دالي.

رضوي والفارسي.. أحالا ميادين جدة إلى معرض فني

المعروف أن رضوي تمكن من انتزاع اعتراف رسمي بمركزه من وزارة المعارف السعودية إبان عهد وزيرها السابق الشيخ حسن بن عبدالله آل الشيخ، كما حظي مشروعه هذا بدعم ورعاية وكيل وزارة المعارف آنذاك «عبدالوهاب عبدالواسع» ومدير التعليم في مكة «عبدالله بوقس»، فكان جاذبا لهواة الفن، وحاضنا لإبداعاتهم، ومصنعا لتخريج رموز الجيل الثاني للحركة التشكيلية السعودية أمثال: ضياء عزيز ضياء، وأحمد فلمبان، وحسن مليح، وعبدالكريم أبوخضير، وطه صبان، وغيرهم ممن بادروا في عام 1993 بقيادة طه صبان إلى تأسيس «بيت الفنانين التشكيليين السعوديين» في وسط جدة القديمة في بيت تقليدي وفره لهم أمين مدينة جدة السابق محمد سعيد فارسي.

أما الأمر الثاني فهو ارتباطه بمحمد سعيد الفارسي في ثنائية متوائمة ومتعاونة هدفها استنباط الأفكار غير المسبوقة لتجميل مدينة جدة وبث البهجة فيها. والمعروف أن الفارسي، وهو ابن شيخ الجواهرجية في مكة وينحدر من عائلة مكاوية ثرية من حارة المسفلة، كان مهووسا بالتخطيط لجدة وتحويلها إلى أيقونة فنية من خلال نصب المجسمات والأعمال الفنية في ميادينها وتقاطعاتها وكورنيشها، إلى درجة أن الفنانة الفنلندية «إيلا هولتنين» التي زارته وعملت معه عام 1979 وصفته بـ«لورينزو ميدتشي» في إشارة إلى وجود تشابه بينه وبين نبلاء فلورنسة من آل ميدتشي الذين أحبوا ورعوا الفنون في عصر النهضة الأوروبية.

وهكذا وجد الفارسي ضالته في رضوي الذي كان عائدا للتو من إيطاليا وممتلئا بحماس الشباب. وعلى حين سيذكر التاريخ أن محمد سعيد الفارسي وقف خلف تشييد 300 حديقة، 50 ملعبا عشبيا، 60 نافورة مائية، و3000 مراكن ورود. ومنح لجدة كورنيشها المفتوح بعد أن كانت الأحواش والهناغر الخاصة تحجبه عن أعين الجمهور، وشق أحد أكبر الجسور صعوبة وهو جسر الميناء، وشق أحد أصعب الشوارع (شارع ولي العهد) لأنه يمر بعشرات من العمائر وعشرات من الفلل والبيوت في قلب المدينة وفي الجزء الخاص بمنطقة الشرفية، فإن التاريخ سيتذكر أيضا أن رضوي عاونه في تنفيذ 20 عملا على الأقل بموارد جدة المحلية من بقايا الرخام والمعادن. ومن أشهر هذه الأعمال مجسم «جرة الفول» التي صنعها رضوي كهدية تقديرا منه لاثنين من معلمي الفول في جدة القديمة (عبدالقادر الأمير، وسعيد القرموشي).

مفرداته خاصة متقاطعة مع موروثه المحلي

وعن المواضيع التي تناولها رضوي في أعماله يقول المتخصص السعودي في النقد والتذوق الفني الدكتور طارق بكر قزاز في بحث له منشور في موقع «منتديات فني» إنها اشتملت على البيئة الشعبية في أحياء مكة وجدة، والمعالم الدينية مثل الكعبة المشرفة والمسجد النبوي، والرقصات الشعبية، والخيول ونوارس البحر، مضيفا أنه «أحاط كل تلك العناصر والرموز بالزخارف التلقائية داخل دوائر تدور كدوامات حول رموز اللوحة». وهذا، بطبيعة الحال، ليس بمستغرب من رضوي الذي لخص في كتاب له بعنوان «الحياة بين الفكر والخيال» فلسفته التي آمن بها وتحكمت في جميع أعماله ومفادها أن الإنسان منذ بداية تكوينه وعبر مراحل حياته المختلفة يملك طاقة كامنة تجعله يتأثر بما حوله من متغيرات فيستقبل ويرسل ويأخذ ويعطي بالقلب والعقل. وبعبارة أوضح فإن العمل الفني من وجهة نظر رضوي هو «نتيجة تفاعل القوى الموجودة في محيط الفنان كشحنات انفعالية وتموجات فكرية كهرومغناطيسية تتردد على شكل دائري حول العقل فتناقض الفكر وتحيط بالقلب فتؤدي إلى شعور الفنان بالألم أو الفرح، فتكون هذه التفاعلات مصدر التعبير في العمل الفني».

وفي مقال عنه كتبه عادل ثابت بجريدة اليوم السعودية (25/‏8/‏2003)، يؤكد الكاتب أن رضوي استوعب أغلب الاتجاهات الحديثة في الفن من تعبيرية وتكعيبية وسيريالية وتجريدية، بل وهضم وفهم كل ما هو مطروح عالميا على ساحة الفن التشكيلي، لكنه فضل أن تكون له مفرداته الخاصة المتقاطعة مع موروثه المحلي والتي نجد تجلياتها في تركيزه على الخطوط الدائرية التي تعلو وتهبط، والألوان البراقة العديدة المدمجة في شكل سيمفونية جميلة، ثم اهتمامه بالزخارف الشعبية المحلية والعربية تعبيرا عن الهوية الإسلامية، واهتمامه في الوقت نفسه بالحرف العربي تأكيدا لما سبق. وما سبق يتفق مع ما قاله الفنان عبدالعزيز عاشور لصحيفة الشرق الأوسط (7/7/ 2014) على هامش معرض «غاليري أيام» بجدة لبدايات الفن التشكيلي السعودي من أن معظم الفنانين السعوديين الأوائل الذي غادروا نحو الغرب لدراسة الفن بشكل منهجي لئن تأثروا بالمدارس الفنية الغربية مثل التكعيبية والتجريدية، فإنهم بعد عودتهم إلى ديارهم اتجهوا بفنهم نحو الدفاع عن الهوية والتراث وذلك من خلال استخدام الألوان الرائجة في البيئة الشعبية واختيار موضوعات شديدة المحلية مثل النخيل وبيوت الطين والصحراء والخيول والإبل والحكايات الشعبية.

بقي أن نذكر أن لرضوي مقتنيات فنية كثيرة تحتضنها عدد من أشهر المتاحف العالمية مثل متحف الفن الحديث في كل من إسبانيا والأردن والمغرب وريودي جانيرو، علاوة على متحف الفن الحديث الوطني بتونس، ومتحف كيرجاس في زيوريخ، وصالة الفن في سان ماركو بإيطاليا. أما عدد المعارض الشخصية التي نظمها فقد تجاوز الـ100 (رقم قياسي لم يبلغه أي من أقرانه)، وشملت معارض في الولايات المتحدة وهولندا وبريطانيا والسويد وفرنسا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا وسويسرا واليابان وإندونيسيا وغيرها من الأقطار. وحصل رضوي في مسيرته الفنية على العديد من الجوائز المحلية والدولية، منها وسام الاستحقاق بدرجة (قائد) من البرازيل عام 1984، ووسام الفنون والآداب من إيطاليا عام 1996. وهو من ناحية أخرى عمل مدرسا للتربية الفنية بجدة بعد حصوله على درجة الدكتوراه وعودته إلى وطنه، كما عمل رئيسا لرابطة الفنانين التشكيليين العرب بمدريد، ومديرا لمركز الفنون الجميلة، ومديرا لجمعية الثقافة والفنون بجدة، ناهيك عن قيامه بتمثيل المملكة العربية السعودية في العديد من المحافل الدولية.

* أستاذ العلاقات الدولية - مملكة البحرين