محمد بركة
محمد بركة




غلاف الرواية
غلاف الرواية
-A +A
حاوره: علي فايعalma3e@
لا أحد يجهل أو يتجاهل نجومية وجماهيرية الفنانة المصرية أم كلثوم، لذا تجد النقاد أو الفنانين الكبار يحسبون ألف حساب قبل إبداء الرأي حول «الست».

لكن الكاتب المصري محمد بركة واجه كل التحديات المحيطة به ليكتب روايته التي كشفت الكثير من أسرار أم كلثوم، بدءا من عنوان الرواية «حانة الست»، وصولا إلى خلافاتها وتناقضاتها وأسرار حياتها، ما عده البعض محاولة من الكاتب لصناعة إثارة تلوي الأعناق لبضاعته. وحول هذه الملابسات كان لنا هذه الوقفة الصريحة مع الكاتب بركة. وإلى نص الحوار:


• ابتداء، هل كتبت «حانة الست» لتشويه رمز عربي كبير كالسيدة أم كلثوم؟

•• العكس هو الصحيح تماما، فقد كتبت هذه الرواية لإنصاف تلك السيدة العظيمة واستعادة إنسانيتها التي كادت تختفي تحت طبقة كثيفة من التدليس والتواطؤ الجماعي! والفكرة هنا ببساطة أن هناك من يريد تصدير فكرة أن سيدة الغناء العربي كانت في منزلة الناسكين والقديسين والزهاد، كائن ملائكي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ولو كان الأمر كذلك لكانت معجزتها في الغناء شيئا عاديا لا يستحق أن تتوقف عنده. المعجزة الفعلية لكوكب الشرق أنها كانت ابنة الطين والتراب، منتج إنساني يحمل مساحته الطبيعية من الضوء والظلام، الكبرياء والانكسار، البسمة والدموع، السمو والتآمر، الرقي والتلاعب بالآخرين، التسامح والغضب، الكبرياء والغيرة. هنا تتجلى عظمة «الست»، فقد عرفت الفقر والجهل والأمية، الحرمان والعقدة الطبقية، الأذى من الأقربين، الضرب تحت الحزام في معارك غير شريفة، وكان عليها أن ترد الصاع صاعين، أن تتحول من ضحية للتآمر إلى متآمرة، من ضحية للتنمر إلى ممارسة له. سيدة بهذه المواصفات، تتسامى عن كل ما مرت به وعرفته لتصبح أيقونة الغناء العربي على مر التاريخ، هنا المعجزة !

• هل كنت تبحث عن الإثارة في اختيارك لمفردة «حانة» لتربطها بالست في عنوان الرواية ؟

•• هناك طريقتان لكتابة العنوان: طريقة البحث المرهق واستشارة الآخرين ووضع قائمة مقترحة ثم المفاضلة بينها، وهي طريقة أمقتها. وهناك طريقة أخرى تتمثل في أن يناديك العنوان، يتلبسك تماما، وكان هذا طبيعيا للغاية، فقد تلبستني روح أم كلثوم بالمعنى الحرفي وليس المجازي، وكلفتني بكتابة هذا النص، وحددت لي آفاق المسموح به وحدود الممنوع. كنت مجرد يد تكتب ما تمليه علي هي. سيقول البعض إن هذا جنون رسميا! حسنا، ولكنه ما حدث بالفعل! أما مفردة «حانة» فهي مقتبسة من قصيدة رائعة غنتها «الست» نفسها كتبها الشاعر طاهر أبو فاشا بعنوان «حانة الأقدار» ويقول مطلعها: «حانة الأقدار، عربدت فيها لياليها».

• من 86 ألف كلمة هي مساحة المسودة الأولى للرواية، إلى 43 ألف كلمة هي مساحة المسودة النهائية المنشورة التي استقر عليها العمل، ما الذي تم حذفه في «حانة الست»، ولماذا ؟

••هذا السؤال تستحق التحية عليه. قبل الكتابة، قمت بعملية بحث شاقة في العديد من المراجع والمصادر التاريخية تضمنت كتبا ودراسات ومقالات ووثائق وصورا نادرة. وجدت في النهاية كنزا معرفيا بين يدي عنوانه العريض «المسكوت عنه في حياة أم كلثوم». كتبت منفعلا مأخوذا، لكن سرعان ما جاءت الفكرة بعد سكرة الدفقة الأولى لأطرح على نفسي سؤالا غاية في البساطة، لكنه في منتهى الإزعاج ويهرب منه المؤلف عادة: هل لو حذفت هذا الجزء أو ذاك سيتأثر العمل؟ وهكذا حذفت الكثير من الاستطرادات والحشو الذي قد يكون مرغوبا لو كنت بصدد كتابة «سيرة صحفية» أو «بحث تاريخي»، لكن ما دمنا بصدد رواية فلابد من الحفاظ على بناء العمل وترا مشدودا بعيدا عن الترهل. وهكذا حذفت الكثير من التفاصيل عن الأوضاع الاقتصادية والاجتماعية في مصر في النصف الأول من القرن العشرين، فضلا عن تفاصيل كثيرة عن حفلات «ثومة» في بيروت وبغداد، كما حذفت فصلين كاملين أحدهما عن حفلاتها في القدس حتى منتصف الأربعينيات والآخر عن نكاتها وروح السخرية وخفة الظل لديها.

• كُتبت أعمال كثيرة عن أم كلثوم وشوهدت أعمال درامية أيضا حول حياتها، ما الذي قدمته وكان مختلفا عن غيره وجديدا في هذا العمل الروائي؟

•• قولا واحدا: أم كلثوم الحقيقية لم تكتب قبل روايتي! قد يقول البعض إن هذا لهو الغرور بعينه، حسنا ولكنها الحقيقة!

عشنا جميعا مع نسخة مزيفة من «الست» فيما قبل، أما النسخة الحقيقية، المسكوت عنها، التي أقدمها فتتضمن علاقتها المتوترة للغاية مع أبيها الشيخ إبراهيم البلتاجي وكيف كان شديد القسوة معها، فضلا عن تمييز أسرتها لأخيها الأصغر «خالد» عليها كمجتمع ذكوري، وتعرضها للاضطهاد من شيخ الكُتاب، وكذلك التنمر على يد زميلات الطفولة، وكيف شعرت بالتفاوت الطبقي بينها وبين الأثرياء على نحو كاد يصيبها بعقدة نفسية في مرحلة ما، بالإضافة إلى أزمتها النفسية الكبرى جراء ارتدائها الزي الرجالي في حفلاتها حتى بدايات الثلاثين من العمر وكيف جعلت رموز العصر وأصحاب النفوذ جنرالات في حملتها لبلوغ المجد، ناهيك عن كواليس الحرب السرية مع عبدالوهاب وحقيقة مشاعرها تجاه أسمهان وكيف عاقبت عبدالحليم. أيضا هناك قصة الحب الوحيدة في حياتها وكيف تعرضت لصفعة من آخر أزواجها وملابسات تدخل الرئيس عبدالناصر لحل الأزمة على طريقته! هناك الكثير والكثير مما ورد على استحياء فيما أسميه «حقائق منسية ووقائع مغيبة»، لكن الأهم أن تلك الرواية تقدم لك مشاعر أم كلثوم الحقيقية وانفعالاتها الداخلية ورؤيتها للعالم بشكل حصري وغير مسبوق وعلى نحو شمولي متعمق.

• علام اعتمدت في توثيق هذا النص وتحويله إلى عمل روائي ؟

•• هناك تنويه بنهاية النص يقول: «الوقائع الواردة في هذا العمل حول حياة السيدة أم كلثوم صاغها خيال المؤلف استنادا إلى وقائع مغيبة وحقائق منسية أثبتنا بعض مصادرها هنا». ومن أبرز تلك المراجع شهادة كل من محمود عوض والدكتور نعمات أحمد فؤاد حول الحياة الخاصة لسيدة الغناء، وشهادة القاضي الراحل الدكتور يحيى الجمل حول واقعة صفعة الدكتور أحمد الحفناوي لها.

• لماذا كل هذا اللغط المثار حول الرواية ؟

•• كثيرون لم يطلعوا على العمل نهائيا واكتفوا ببعض الملاحظات السلبية التي ردد فيها البعض أن الوجه الإنساني المسكوت عنه لا يليق بمقام «الست» فراحوا يطالبون بحرق الرواية في ميدان عام وإلقاء القبض على صاحبها، بل وصل الأمر لحد المطالبة بتدخل النائب العام! ما يحزنني هو هذا التحريض المجاني دون قراءة النص. والحمد لله حين بعثت إلى هؤلاء بالعمل ليقرأوا ويصدروا حكمهم بناء على أساس متين، تراجع أغلبهم، بل قدم بعضهم اعتذارا.

• ما الدوافع العميقة التي أثارتك لكتابة هذا العمل ؟

•• سأدع أم كلثوم نفسها تجيبك، حيث تتوجه في مقدمة النص لتخاطب المؤلف قائلة: «لقد تحولتُ إلى تمثال من شمع يقدسه الجميع. هرم من الكريستال ينتصب شامخا على البعد دون أن يجرؤ أحد على الاقتراب منه واختبار ملمسه. لا ذرة تراب، لا سطر شخبطة على الورق المصقول. بعد كل هذه السنوات على صعودي، لم تعد تلك الصيغة مريحة. جاء جيل مختلف، متمرد، لن يحبني إلا إذا رأى ضعفي، وتحسس هشاشتي، وعاين على الطبيعة إنسانيتي». كان الأمر رغبة سرعان ما تحولت إلى تكليف من السيدة!

• سبق أن عملت بالصحافة الثقافية ليس حبا فيها ولكن لأهداف أخرى، فما هي تلك الأهداف، وكيف رأيت الوسط الثقافي الذي انتميت له لسنوات ؟

•• لقد تخرجت من كلية التربية والآداب، قسم لغة إنجليزي، سرعان ما تم تعييني مدرسا فكدت أموت اختناقا! التدريس مهنة نبيلة وكنت متفوقا في توصيل المعلومة لتلاميذي لكن النظام العام والاستيقاظ مبكرا وكم من يحق لهم ممارسة سلطة علي، كل ذلك كاد يصيبني بالجنون! تركت حياة سهلة مرفهة وجئت للقاهرة مفلسا أبحث عن مهنة قريبة من موهبتي في الكتابة. صرت صحفيا، لكني سرعان ما نفضت يدي من الأمر لأني وجدتني أتعامل مع وسط ثقافي يشعرني بالغربة طوال الوقت، لم أنتم إليه في أعماقي يوما ما، مقاهي الأدباء مفرخة كبرى للأكاذيب والاستعراض الفارغ، أي البؤس الإنساني!

• لك رأي في الجوائز الأدبية، هل أنت معها أم ضدها ؟

•• ما دمت تصيغ السؤال بهذا الشكل الحاد: إما أبيض أو أسود، فسأقول لك إنني ضدها طوال الوقت ما دمت لم أحصل عليها، أما لو فزت بها فسأقول فيها ما قاله عنترة في عبلة !

بالطبع أنا أمزح، والحق أني معها باعتبارها تحسن صورة الأديب أمام زوجته وأبنائه، هؤلاء الذين لا يفهمون أبدا لماذا ينفق هذا الرجل المخبول وقته وجهده في هراء لا طائل منه طوال العمر! وأنا ضد الجوائز حين يكون قرار منحها لشخص ما ولسبب ما قد تم اتخاذه مسبقا بغض النظر عن نوعية الأسماء والأعمال المشاركة! أنا ضدها حين يبدأ الطريق لنيل الجائزة بزيارات خاصة لمنازل أعضاء هيئة التحكيم من جانب أدباء يحملون هدايا ثمينة أو على الأقل يوجهون دعوة للسيد عضو لجنة التحكيم المحتمل لعشاء فاخر في مطعم من فئة الخمس نجوم!