بين مطلعٍ يفيض بالدهشة، ومنتهى يقطر خشوعاً، يقف الشاعر عبدالعزيز خوجة في قصيدته «بين طيني ونزولي» على تخومٍ فاصلة بين الأرض والسماء، بين الضعف الإنساني والتوق الإلهي، في حوارٍ داخليّ يمزج الفلسفة بالشجن، والاعتراف بالتأمل، والنهاية بالبداية.

القصيدة تُفصح عن معمارها الرمزي «الطين» أصل الخلق، و(النزول) هو الوعي بالخطيئة، أو الانحدار من مقام الصفاء إلى امتحان الأرض.

وهي بذلك تستحضر قصة الإنسان في نشأته الأولى، حيث يقول الشاعر في بيتٍ يقطر صدقاً وجودياً إنه يقف بين ما كان وما سيكون، بين خَلقٍ من تراب وحنينٍ إلى نورٍ سماويّ.

في قوله كما يلمح أحد النقاد اعترافاً بأن الإنسان كائنٌ مأزوم بالمسافة بين أصلٍ أرضيّ ومصيرٍ سماويّ، فهو «ابن الطين» الذي لا يكفّ عن النظر إلى الأعلى.

ومن هنا تنبع فلسفة القصيدة تلك الثنائية الأزلية بين الجاذبية الأرضية والحنين إلى الخلاص.

يقول الدكتور خوجة في إحدى شذرات القصيدة:

«بينَ طيني ونُزولي وجنونِ الكبرياءِ...

ضاعَ منّي صِدقُ ذاتي، وارتوى قلبي عَناءِ»

هذا البيت وحده يفتح بوابةً على بحرٍ من التأملات، فالطين هنا ليس مجرد مادة، بل ذاكرة الخلق؛ والنزول ليس سقوطاً، بل تجربة وعيٍ يتفكّر فيها الإنسان كيف تحوّل من نفحةٍ علوية إلى جسدٍ مُثقل بالشهوة والندم. أما جنون الكبرياء فهو الذنب الذي يُعيدنا إلى لحظة السقوط الأولى، حيث بدأ الصراع بين العقل والرغبة، وبين الطاعة والتجربة.

القصيدة تُشبه مناجاة وجودية لا تعترف بالزمن، حين يقول الشاعر الخوجة في موضعٍ آخر إنه «ما زال يبحث عن وجهه بين مرايا الخلق»، كأنه لا يزال في مرحلة التكوّن.

هذه الصورة تُجسّد مأزق الإنسان الذي يرى نفسه مخلوقاً ناقصاً، لكنه مع ذلك مأمورٌ بالسير نحو الكمال.

من الناحية الفنية، يزاوج خوجة بين الإيقاع المتهادي والصورة المشبعة بالرمز. لغته أنيقة لا تكتفي بالوصف، بل تتغلغل في المعنى حتى تُلامس الجوهر. فهو حين يذكر «النزول»، يُحيله إلى دلالة روحية لا إلى فعلٍ مادّيّ؛ وحين يتحدث عن «الطين»، يُعيده إلى الذاكرة الأولى التي انبثق منها الإنسان ليخوض رحلة الوعي والامتحان.

أما من جهة البنية، فإن القصيدة تتحرك بحركةٍ لولبية، تبدأ من سؤال الخلق وتنتهي بإشراقة التوبة.

وكأنها تسير وفق قانون كونيّ من الطين إلى النور، من السقوط إلى القيام، من الذنب إلى الصفح. وهذا ما يمنحها طابعاً روحانياً لا يخلو من الفلسفة.

ورغم كثافة البعد التأملي فيها، لا تخلو القصيدة من لمسةٍ عاطفيةٍ خوجويةٍ مألوفة، تلك التي تُشبه التنهيدة التي تخرج من قلبٍ يرى الجمال في الانكسار. فكل بيت فيها يشي بأن الإنسان مهما علت مقاماته يظلُّ أسيرَ أصلِه، محكوماً بضعفه، مفتوناً بقدرته على النهوض.

يقول الشاعر في ختام القصيدة:

غيرَ أنّي ما نسيتُ الطينَ فيّ...

كلّما رُمتُ السماءَ أعادَني خَجلي إليّ

هذا الختام يمنح النصّ بُعده الجوهري: فالتجربة الإنسانية ليست في الصعود وحده، بل في إدراك ثِقل الأرض التي نحملها معنا. إنّه وعيُ التناقض الذي يصنع الشاعر الحقّ، حيث لا خلاصَ إلا بالاعتراف، ولا سموَّ إلا بالتواضع.

الشعر بوصفه مرآة الوعي بهذا المعنى، لا تُقرأ بين طيني ونزولي كقصيدةٍ وجدانية فحسب، بل كوثيقةٍ فكريةٍ عن الإنسان في صراعه الأزلي بين مادّته وروحه.

إنها استعادةٌ لشجن الخلق الأول، واعترافٌ بأن السقوط لم يكن نهاية، بل بداية الوعي.

عبدالعزيز خوجة في هذه القصيدة لا يكتب شعراً فحسب، بل يعيد طرح السؤال القديم الجديد: من نحن بين الطين والنشور؟ بين الأرض والسماء؟ بين الخطيئة والرحمة؟ وهو بذلك يوقظ فينا الحسّ الإنساني العميق بأن كلّ رحلةٍ نحو الله تبدأ من معرفة الطين الذي فينا.