-A +A
أنمار مطاوع
من سُنن الكون والطبيعة الإنسانية أن يتمرد الحاضر على ماضيه.. ويتجاوز الحد المتفق عليه مسبقا من أعراف المجتمع وقوانين الحياة الاجتماعية. لكن ليس من الطبيعي أن يكون التمرد والخروج على الأعراف والتقاليد جماعيا ومفاجئا وكبيرا.. فذلك لا يمكن تصنيفه إلا ضمن التسونامي الفكري الذي يأتي بغتة.

قد توصف الظاهرة -ربما تجاوزا- بأنها ثورة ثقافية.. فالشعوب بشكل عام (وجماعي) تمردت على قيمها الماضية.. حتى الثوابت أصبحت مواضيع قابلة للحوار والنقاش والتشكيك.. والسفسطة.


هذه الظاهرة هي واحدة من مواليد القوة الناعمة العالمية التي لم تترك مجالات تفكير رحبة.. فأصبحت تقود المجتمعات بالتقنية المتسارعة نحو عالم غامض. هي -أي الظاهرة- أرض خصبة لطرح مصطلح (المؤامرة).. ولكن هذه المرة يأتي المصطلح منفصلا ومجردا وخاليا من الهوية. حيث لا يُعرف مدبرها أو قائدها أو حتى من هم الداعون لها.. هي صناعة الكل ويديرها الكل.

مهمة الجميع أصبحت -بوعي وبدون وعي- الإطاحة بالقيم القديمة.. فالكل يرتبط بخيوط وهمية في هذه المؤامرة الثقافية. وسائل التواصل الاجتماعي دفعت الجميع لتبني مفاهيم جديدة. على سبيل المثال: النبل أو الاحترام أو العفو أصبحت مفاهيم قديمة يرمز لها بالزمن الجميل.. عوضا عنها جاءت المساواة واحتلت محلها جميعا.. ولم يتبق سوى ذكريات الارتباط اللفظي. حتى مفهوم العائلة تغير حول العالم خلال العقدين الماضيين.

العالم في عصر السرعة.. دون التمعن كثيرا في النتائج المترتبة على الأفعال. الأبعد، أن الدراسات العلمية تشير إلى أن شكل الدماغ البشري تغير عما كان عليه قبل عقدين من الزمن. مما يعني أن نقطة التحول الحالية هي مرجعية المستقبل.

القوة الناعمة لم تترك مجالات تفكير كثيرة.. فأصبح التدخل في ثقافات الآخرين أمرا متاحا وممكنا.. مما سمح بفهمه على أنه مباح أيضا. كل ثقافة تريد أن تستخدم قواها الناعمة لإخضاع الثقافات الأخرى.. ومسخها.. وانتشرت عدوى عدم الرضا عن ثقافة الآخر.. وأصبح مصطلح اختلاف الثقافات مثيرا للريبة.. فكل مجموعة ترى أن ثقافتها هي الأقوى والأفضل والأكثر أمانا للمستقبل.. وتحول العالم إلى ساحة صراع كبيرة الكل يحاول أن يغزو الكل ويغير الكل ويرتب قيم الكل.. وفي النهاية اختلت ثوابت الثقافات ككل.. ولم يعد الاستقرار سوى حالة طارئة.

ربط الحاضر بالماضي، أو جعل الحاضر امتدادا لقيم الماضي لا يُعدّ وقوفا في وجه السنّة الكونية.. بل على العكس هو تدعيم لها. عندما أتي الدين الجديد، فإنه لم يلغِ كل القيم الجاهلية.. بل أبقى على القيم النبيلة وجعلها من مرتكزات الثقافة الجديدة.

* كاتب سعودي

anmar20@yahoo.com