-A +A
طارق فدعق
من الغرائب في هذا العصر أننا ننسى روائع النعم وهي أمامنا يوميا... وبعضها تداعب حواسنا بدون جدوى... ومن أجمل تلك النعم هي نعمة الغذاء، وبالذات الفواكه الطازجة التي تأتينا من مختلف بقاع العالم... وللموز أهمية خاصة لأنه يحتوى على مجموعة «حواديت» بعضها أغرب من الخيال... ولنبدأ بالخصائص الخفية لهذه الفاكهة العجيبة وأولها مقدار الإشعاع النابع منها. كل موزة تصدر ما يسمى فنيا، ولكن غير رسمي، بجرعة الموز المكافئة Banana Equivalent Dose (BED) وهي جرعة ضئيلة تعادل حوالي 1% فقط من متوسط الجرعة اليومية غير الضارة التي نتعرض لها، وتستخدم جرعة الموز كمثال على ضآلة الإشعاع الذي نتعرض له بدون أي تأثيرات... يعني لا خوف من ذلك الإشعاع... وأما المقدار القاتل فهو يعادل الأشعة الصادرة من حوالي خمسة وثلاثين مليون موزة. والسبب الرئيس لصدور هذه الأشعة هو نظائر عنصر البوتاسيوم التي تتوفر في تركيبة الموز. وللعلم ففوائد هذه الفاكهة الغذائية كما يعلم الجميع هي رائعة جدا كونها مغذية، ولذيذة، وجميلة، ونظيفة. تأمل في شكلها ولونها وحجمها الرائع، وتأمل في نظافتها فهي تمثل أحد أروع أنظمة التغليف في العالم... وبالرغم من ذلك فهي سهلة الفتح. والموز هو الفاكهة المفضلة في العالم... هو الأكثر مبيعا واستهلاكا... وينتج العالم حوالي ستمائة ألف مليون موزة سنويا... أكثر من إجمالي التفاح، والبرتقال، والتمور... والغالب أنها أول فاكهة أكلناها في حياتنا... والغالب أيضا أن آخر فاكهة سنأكلها قبل أن نودع الدنيا... وقد قدرت أنني شخصيا أكلت اليوم موزتي رقم ثمانية آلاف وخمسمائة... وهناك المزيد... تخيل أن الدول الأولى المنتجة له عالميا وهي الهند لا تصدره بكميات تذكر، فمعظمه يبقى للإنتاج المحلي. وتخيل أن معظم الموز الذي نأكله نستورده من دول في «آخر الدنيا»... أي أنها تبعد عنا بآلاف الكيلومترات مما يتطلب نقل هذه النعمة عبر المحيطات. ويتم ذلك باستخدام أساطيل بحرية مخصصة، وكانت وبعضها لا يزال يسمى «بالأسطول الأبيض» لأن السفن المستخدمة لنقل هذه الفاكهة تتميز بلونها الأبيض. وكان ذلك لتيسير عدم امتصاص الحرارة للحفاظ على الفاكهة الطازجة، ولكنها بقت إلى يومنا بالرغم من التقدم في تقنيات التبريد. ولكن العجيب فعلا أن الموز قلب موازين السياسة في العديد من دول أمريكا الوسطى. بعد تكوين الشركات الكبرى لقطاع إنتاج هذه الفاكهة في دول مثل هندوراس، وجواتمالا، وإكوادور، وكوبا قامت وقعدت حكومات بأكملها بسبب إنتاج الموز لدرجة أن هناك مصطلحا رسميا وهو «جمهوريات الموز» Banana Republics... لن تجد جمهوريات الحبحب... ولا جمهوريات الخربز، ولا جمهوريات التين... وقد عانت العديد من تلك الدول من صراعات الطبقات العاملة ضد شركات إنتاج الموز الدولية التي تدخلت اقتصاديا وسياسيا وثقافيا لحماية الموز.

تأمل في أنواع التمور الرائعة التي أنعم الله علينا بها... العجوة، والسكري، والبرحي وغيرها... وتأمل في أنواع الفواكه المختلفة ومنها البرتقال على سبيل المثال... «أبو سرة»، واليوسفي، والياباني وغيره... ولكن الملاحظ أن لا خيارات تذكر في الموز... معظمه هو نوع واحد في معظم دول العالم اسمه «كافنديش»...عالميا لا مؤاخذة يعني معظم الموز الذي نأكله سنويا من نوع واحد. والطريف هنا أن الموز الذي كان يأكله آباؤنا كان يختلف تماما في شكله، وطعمه، وحجمه، واسمه عن موز اليوم. أطلقوا عليه اسم «جرو ميشيل» يعني لا مؤاخذة «الهلف ميشيل»، وكان يتميز بلونه وطعمه وقوة تحمله. ولكن قبل حوالي خمسين سنة أصيب كامل المحصول العالمي بوباء اسمه «مرض باناما» نظرا لاكتشافه في تلك البلد، وأدى ذلك إلى إبادة الموز. ولحسن الحظ تم إيجاد البديل وهو ما ننعم به بلطف الله اليوم.

أمنيـــــة

للأسف أن الموز كما نعرفه اليوم مهدد بالانقراض بسبب مرض جديد بدأ في الظهور، وهناك محاولات لإيجاد البديل اليوم لأن هذه الفاكهة تشكل أحد الأغذية الأساسية للعالم ليس فقط كفاكهة وإنما كمصدر أساسي للبقاء. أتمنى أن نقدر النعم التي أكرمنا بها الله عز وجل مهما بدت بسيطة فهو يكرمنا بطرق لا نشعر بها.... وهو من وراء القصد.