من الواضح أن الحرب ما بين الدولة السورية وتنظيم داعش الإرهابي قد دخلت مرحلة جديدة أكثر تعقيداً وخطورة، مرحلة انفتحت فيها المسارح وتداخلت فيها الجبهات، بعد الهجوم الذي شنّه التنظيم على دورية مشتركة للقوات السورية والأمريكية في مدينة تدمر، وهو هجوم لا يمكن قراءته بوصفه حدثاً أمنياً معزولاً، بل باعتباره إعلاناً صريحاً عن طبيعة الصراع المقبل، صراع لا يشبه الحروب التقليدية ولا يخضع لقواعدها المعروفة، بل يندرج ضمن نمط حروب الظل وحرب العصابات والضربات الخاطفة، حيث تتحول الجغرافيا إلى فخ، وتصبح الثغرات الأمنية أخطر من الجبهات المفتوحة، وحيث يُراهن الإرهاب على الإنهاك والاستنزاف أكثر من الرهان على الحسم المباشر. هذه الحرب، وإن بدت متوقعة في توقيتها، إلا أنها تحمل دلالات أعمق، ذلك أن نهج الرئيس الشرع، القائم على استعادة الدولة ومؤسساتها، والانخراط الواضح في منظومة الشرعية الدولية، والقطيعة الصريحة مع منطق الجماعات المتطرفة، هو نهج لا يرضي التنظيمات الإرهابية بطبيعتها، بل يضعها في مواجهة حتمية مع دولة تحاول أن تعود، ومع سلطة تسعى إلى احتكار القرار والسلاح والشرعية، وهو ما يجعل الصدام مسألة وقت لا أكثر. غير أن التحدي الحقيقي لا يكمن في اندلاع المواجهة بحد ذاتها، بل في طبيعتها المركبة، فهي ليست حرب جيوش ولا معركة خطوط تماس، وإنما حرب معلومات واستخبارات، حرب تتطلب تفوقاً في الرصد، وقدرة عالية على الاختراق، وتعاوناً عابراً للحدود في مجالات التجسّس والتتبع والتحليل، وهو ما يجعل من الشراكة الاستخباراتية الدولية عنصراً حاسماً لا غنى عنه، خصوصاً في ظل تحوّل سوريا مجدّداً إلى جزء فاعل من التحالف الدولي ضد تنظيم داعش، لا بوصفها ساحة مواجهة فحسب، بل بوصفها طرفاً معنياً ومبادراً.
على الصعيد الداخلي، تبدو الحاجة ملحّة أكثر من أي وقت مضى لأن تسرّع الحكومة السورية في ترتيب أوراقها، وبناء مؤسساتها الأمنية على أسس مهنية واضحة، وفي مقدمتها مؤسسة الاستخبارات وجهاز الأمن العام، بعيداً عن التعدّد والتشظّي وتضارب الصلاحيات، فمواجهة الإرهاب لا تحتمل ازدواجية القرار ولا تعدّد مراكز القوة، بل تتطلب جهازاً أمنياً واحداً، وسلاحاً واحداً، وقراراً مركزياً يحتكر استخدام القوة ويدير المعركة بوعي استراتيجي طويل النفس. وفي هذا السياق، لا تبدو الاستعانة بخبرات الدول الشقيقة والصديقة خياراً ثانوياً، بل ضرورة استراتيجية، سواء مع الولايات المتحدة الأمريكية التي تمتلك خبرة واسعة في مكافحة الإرهاب، أو مع المملكة العربية السعودية، التي راكمت تجربة أمنية واستخباراتية عميقة في هذا المجال، فضلاً عن دورها الإقليمي المؤثر. كما أن على واشنطن مسؤولية مضاعفة في هذه المرحلة، إذ إن كثيراً من عقد المشهد السوري، وخصوصاً في الشمال والشرق، لا يمكن حلّها دون تدخل سياسي وأمني مباشر، يفضي إلى وحدة السلاح، وإنهاء حالات التفكك، ورفع العبء عن الدولة السورية كي لا تُستنزف في ملفات جانبية بينما تواجه خطراً وجودياً يتمدّد في البادية ومناطق الهشاشة.
نعم، لقد بدأت حرب، لكنها حرب صعبة ومريرة، حرب تتطلب صبراً طويلاً، وتضحيات جسيمة، وقد دفعت سوريا ثمنها منذ اللحظة الأولى بدماء جنودها، كما دفعها حلفاؤها بدماء جنود أمريكيين سقطوا في مواجهة عدو لا يعترف بقيم ولا يقيم وزناً للحياة، وهو ما يمنح هذه المعركة بعداً إنسانياً وأخلاقياً يتجاوز الحسابات السياسية الباردة. والحقيقة التي يجب أن تُقال بوضوح إن هذه ليست حرب سوريا وحدها، وليست معركة حكومة ضد تنظيم، بل هي حرب المنطقة بأسرها، وحرب التحالف الدولي ضد الإرهاب، غير أن سوريا، دولةً وشعباً وحكومةً، تقف في الواجهة، عند خطوط التماس مع الفراغ والفوضى، ومع مناطق الرخاوة التي يتسلل منها الإرهاب ليضرب ثم يختفي. ردود الفعل الأولية، من إدانة واضحة، ودعم معلن من الدول العربية والمجتمع الدولي، والموقف الأمريكي المتقدم، تشكّل خطوة في الاتجاه الصحيح، لكنها لا تكفي ما لم تُستكمل بوضع استراتيجية شاملة، أمنية واستخباراتية ولوجستية، تُبنى بالشراكة مع دمشق لا بالنيابة عنها، وترافقها مظلة سياسية تُمكّن الحكومة السورية من استعادة قدرتها على الحركة، ومعالجة الملفات الشائكة التي تعيق تثبيت الدولة.
إن دعم الإدارة السورية في حربها ضد تنظيم داعش لم يعد خياراً سياسياً قابلاً للأخذ والرد، بل ضرورة أمنية إقليمية ودولية؛ لأن البديل عن دولة قوية هو فراغ قاتل، ولأن الإرهاب لا يُهزم بالبيانات، بل بالدولة، وبالمؤسسات، وبالإرادة، وبالتحالف الصادق، الذي يدرك أن سقوط شهيد سوري أو جندي أمريكي هو إنذار للجميع، لا خبراً عابراً في نشرة المساء.


