تحميل...
في ظل المعطيات الخطيرة والتسريبات المقلقة التي رافقت اللقاء الأخير والحاسم في العاصمة بغداد بين رئيس الوزراء محمد شياع السوداني والمبعوث الأمريكي توم براك، يتضح جلياً أن المنطقة تقف اليوم على فوهة بركان يوشك أن يقذف حممه ليحرق الأخضر واليابس، حيث لم تكن الرسائل الأمريكية التي حذّرت من عملية إسرائيلية وشيكة في لبنان مجرد برقيات دبلوماسية روتينية، بل كانت إنذاراً نهائياً بأن الغطاء قد رُفع، وأن أي انخراط للفصائل العراقية في هذه المعركة سيحوّل العراق إلى ساحة مستباحة لضربات إسرائيلية مدمرة لن تمنعها واشنطن، وهو ما يضعنا أمام حقيقة مرة مفادها أن استقرار الشعوب وأمن الأوطان بات رهينة بيد أطراف غير مسؤولة تمارس العبث السياسي والعسكري بلا أدنى درجات الحكمة أو التعقل، ويأتي في طليعة هذه الأطراف حزب الله الذي يصر بتعنّت غريب على التشبّث بسلاحه خارج إطار الشرعية، رافضاً التحوّل إلى مكوّن سياسي مدني يؤمن بمنطق الدولة والمؤسسات، ومفضلاً البقاء بوضعية «الميليشيا» التي تصادر قرار السلم والحرب وتفرض أجنداتها الخاصة على الدولة اللبنانية المنهكة، مغامراً بمصير شعب كامل لخدمة شعارات لم تجلب إلا الدمار، وفي المقابل تقف الحكومة الإسرائيلية المتطرّفة كوجه آخر لهذه العملة الرديئة، بعد أن تخلت تماماً عن لغة السياسة والدبلوماسية، واستسلمت لعقيدة القوة العمياء، متوهمة أن الحلول العسكرية الصرفة وسياسة الأرض المحروقة قادرة على صنع الأمن، متجاهلة أن هذا الهروب إلى الأمام عبر الحروب المفتوحة لن يولد إلا مزيداً من العنف والكراهية وعدم الاستقرار الذي سيرتد عليها عاجلاً أم آجلاً، وتكتمل أركان هذه المأساة بالدور الذي يلعبه «الطرف الإقليمي المعروف» الذي يقف خلف الكواليس، والذي يبدو أنه يعيش في عزلة شعورية تامة عن الواقع، عاجزاً عن قراءة التحوّلات الجيوسياسية العميقة التي شهدتها المنطقة والعالم، إذ لا يزال هذا الطرف يراهن على سياسات تصدير الثورة والأزمات وتشغيل الأذرع بالوكالة، مكرراً نفس الأخطاء الإستراتيجية القاتلة التي أدّت سابقاً إلى كوارث اقتصادية وعقوبات وحروب عبثية، وكأنه لم يستوعب بعد أن زمن اللعب على حافة الهاوية قد ولّى، وأن العالم لم يعد يحتمل المزيد من هذه المناورات المكشوفة التي تدفع ثمنها الشعوب العربية من دمائها ومقدراتها، إن هذا الثلاثي المأزوم بتركيبته المتناقضة يجر المنطقة برمتها نحو سيناريوهات سوداوية، جاعلاً من العراق ولبنان ساحات لتصفية حسابات عدمية لا ناقة للشعوب فيها ولا جمل، وهو ما يستدعي وقفة جادة وعقلانية لرفض هذا الانجرار الأعمى خلف دعوات التصعيد، فاللحظة الراهنة لا تحتمل المغامرة، والتاريخ لن يرحم أولئك الذين استبدلوا منطق العقل والسياسة بمنطق البارود والنار، وأضاعوا فرص السلام والاستقرار جرياً خلف أوهام الزعامة والنفوذ، فمن يزرع الريح في حقول السياسة الملغومة لن يحصد سوى العاصفة التي تقتلع الجذور وتهدم البنيان، ولات حين مندم لمن لا يرى في الأفق إلا دخان الحروب ولا يسمع إلا صليل السيوف، ناسياً أن حكمة القيادة تتجلى في صون الدماء لا في إراقتها، وأن الحفاظ على الأوطان هو الغاية الأسمى التي تتضاءل أمامها كل الشعارات الجوفاء والمشاريع العابرة للحدود.
تُشكّل الزيارة التاريخية التي قام بها سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى العاصمة الأمريكية واشنطن منعطفاً جيوسياسياً حاسماً يعيد رسم خرائط النفوذ والقوى في القرن الحادي والعشرين، إذ لم تكن هذه الرحلة مجرد بروتوكول دبلوماسي تقليدي أو تجديد لعلاقات روتينية عابرة، بل جاءت لتعلن عن ميلاد حقبة جديدة من الشراكة الاستراتيجية الشاملة التي تضع المملكة العربية السعودية في مصاف القوى العظمى المؤثرة في صنع القرار العالمي، وقد تجلى هذا البعد الاستراتيجي العميق في تكريس «معاهدة دفاع استراتيجي» تعد الأقوى والأكثر متانة بين الولايات المتحدة وأي دولة أخرى خارج منظومة حلف شمال الأطلسي (الناتو)، وهو ما يعكس قناعة أمريكية راسخة بأن أمن المنطقة واستقرار الاقتصاد العالمي يمران حكماً عبر بوابة الرياض، ولم يقف هذا التحالف عند حدود التفاهمات السياسية، بل تُرجم عملياً على أرض الواقع من خلال إنجازات دفاعية نوعية غير مسبوقة، كان أبرزها الاتفاق على تصدير 35 طائرة من طراز «إف 35» الشبحية المتطورة إلى المملكة، في خطوة تحمل دلالات عسكرية وسياسية بالغة الأهمية، وتؤكد على مستوى الثقة الاستراتيجية العالية التي باتت تتمتع بها القيادة السعودية لدى دوائر القرار في واشنطن، متجاوزة بذلك كل التحفظات السابقة، وفي سياق متصل، أثبت الأمير محمد بن سلمان من خلال هذه الزيارة أنه لم يذهب إلى واشنطن بصفته ممثلاً للمملكة فحسب، بل حط رحاله في البيت الأبيض زعيماً حقيقياً للشرق الأوسط، حاملاً على عاتقه هموم المنطقة وقضاياها المعقدة، ومدافعاً شرساً عن مصالح شعوبها، حيث تصدّر الملف السوداني المباحثات، وانتزع سموه تعهدات صريحة ومباشرة من الرئيس الأمريكي بالانخراط الفعلي والجاد لإنهاء الصراع الدامي في السودان، مؤكداً بذلك دور المملكة المحوري كصانعة للسلام ووسيط نزيه لا غنى عنه في حلحلة الأزمات الإقليمية، وبالتوازي مع ذلك، وبجرأة سياسية معهودة ورؤية استشرافية ثاقبة، فتح ولي العهد ملف العقوبات المفروضة على سوريا، دافعاً بقوة نحو ضرورة إنهاء هذه العقوبات لتمهيد الطريق أمام عودة الاستقرار، وتعزيز آفاق التعاون بين دمشق وواشنطن بما يخدم الأمن الإقليمي، في طرح يعكس الواقعية السياسية التي تنتهجها المملكة لتصفير المشاكل ولم الشمل العربي، أما على الصعيد الاقتصادي والتجاري، فقد كانت لغة الأرقام والمصالح هي السائدة، حيث تم توقيع اتفاقيات تجارية ضخمة، إلا أن الأهم من حجم هذه الاتفاقيات هو الروحية التي سادت توقيعها، فقد أوضح الأمير محمد بن سلمان لنظيره الأمريكي بلهجة القائد الواثق والمعتز بوطنه أن هذه الصفقات المليارية ليست «محاباة» للولايات المتحدة أو هدية للرئيس الأمريكي، بل هي اقتناص لفرص استثمارية واعدة تخدم «القيادة السعودية» ورؤيتها الطموحة، وتعود بالنفع على الاقتصاد الوطني، مرسّخاً بذلك مبدأ الندية في التعامل، وأن المملكة لم تعد مجرد سوق استهلاكية، بل هي شريك يصنع الفرص ويفرض شروطه بما يحقق مصالحه العليا، لتختتم هذه الزيارة فصولها وقد كرّست صورة الأمير محمد بن سلمان كعرّاب لمرحلة جديدة من النهضة العربية، وقائد استثنائي يمتلك أدوات القوة الناعمة والصلبة، قادر على توظيف علاقاته الدولية لخدمة قضايا أمته، وجعل المملكة الرقم الأصعب في المعادلة الدولية الذي لا يمكن تجاوزه أو تهميشه.
تأتي زيارة ولي العهد الأمير محمد بن سلمان إلى الولايات المتحدة الأمريكية في لحظة سياسية بالغة الحساسية، إذ تشكّل محطة أساسية في مسار العلاقات بين الرياض وواشنطن، وتفتح الباب أمام إعادة صياغة الشراكة الاستراتيجية بين الطرفين على أسس أكثر عمقاً وشمولاً. فالمملكة، بقيادتها الشابة الطموحة ورؤيتها للمنطقة، تسعى إلى تعزيز موقعها الدولي عبر علاقات متوازنة وقائمة على المصالح المتبادلة، فيما تدرك الولايات المتحدة أن السعودية اليوم تمثّل ركناً محورياً لا يمكن تجاوزه في منظومة الأمن الإقليمي وميزان القوى العالمي. وتكتسب هذه الزيارة أهمية بالغة لأنها تجمع بين متغيّرات إقليمية متسارعة وتحديات اقتصادية وأمنية مشتركة، ولأنها تأتي في توقيت يشهد إعادة ترتيب للنفوذ في الشرق الأوسط، الأمر الذي يجعل الحوار السياسي بين الجانبين ليس رفاهية دبلوماسية، بل ضرورة استراتيجية تمليها التحوّلات العميقة في المنطقة. وتشكّل الملفات السياسية والأمنية والاقتصادية عمق المباحثات، إذ من المتوقع أن يناقش الطرفان تطوير التعاون الدفاعي، وتعزيز قدرات الردع المشتركة، والتعامل مع التحديات المتنامية المرتبطة بالأمن البحري والطائرات المسيّرة، إضافة إلى بحث برامج التحديث العسكري والتصنيع المشترك بما يخدم طموحات المملكة في بناء قوة رديفة تستند إلى التكنولوجيا المتقدّمة. كما سيحضر الجانب الاقتصادي بقوة، وخصوصاً في ظل رؤية السعودية 2030 التي تفتح آفاقاً واسعة للاستثمار في مجالات الطاقة النظيفة، والتكنولوجيا، والذكاء الاصطناعي، والبنية التحتية، وهي مجالات تتقاطع مع أولويات الشركات الأمريكية الكبرى، ما يجعل الزيارة فرصة لتمتين الروابط الاقتصادية في مرحلة تشهد منافسة عالمية محتدمة. وعلى المستوى الإقليمي، ستتضمّن النقاشات ملفات الشرق الأوسط الحساسة، وفي مقدّمتها الوضع في سورية، حيث تحرص المملكة على دعم مسار سياسي يضمن وحدة الدولة السورية ويحدّ من الفوضى التي استنزفت المنطقة لسنوات، إلى جانب الملف اللبناني الذي أصبح بحاجة ماسة إلى مظلة عربية ودولية تمنع انهياره الكامل ومساعدة السلطة بحيث تكون قادرة على مواجهة الأزمات المالية والسياسية العميقة. كذلك ستُطرح قضايا أكثر اتساعاً مثل مستقبل الاستقرار في العراق واليمن، والعلاقة مع إيران، ومسار التهدئة في غزة والضفة الغربية، وهي ملفات تدرك واشنطن أن حلّها أو احتواءها يمر عبر بوابة السعودية باعتبارها اللاعب الأكثر تأثيراً في توازنات الشرق الأوسط. وتسلّط هذه الزيارة الضوء على حقيقة راسخة بأن المملكة العربية السعودية لم تعد مجرد قوة نفطية كما كانت تُقدَّم في الماضي، بل أصبحت القوة العربية المركزية التي ترتكز عليها معادلة الأمن الإقليمي، والركيزة الأساسية لضبط إيقاع التوترات ومنع المنطقة من الانزلاق نحو مواجهات غير محسوبة. ومن هنا، فإن هذه القمة بين الأمير محمد بن سلمان والقيادة الأمريكية ليست لقاءً بروتوكولياً، بل حدث إقليمي مفصلي يرسّخ حضور السعودية لاعباً لا غنى عنه، ويمهّد لمرحلة جديدة من التعاون تُعيد رسم مستقبل الشرق الأوسط. وهكذا تُختتم الزيارة بتأكيد أن المملكة، برؤيتها الاستراتيجية وحضورها الدولي المتصاعد، باتت العنصر الأساسي في استقرار المنطقة والعنوان الأكبر لإرادتها السياسية القادرة على صياغة مستقبل عربي أكثر توازناً وأمناً.
جاء اللقاء الذي جمع الرئيس السوري أحمد الشرع بنظيره الأمريكي دونالد ترمب في البيت الأبيض يوم العاشر من نوفمبر 2025 ليشكّل نقطة تحوّل تاريخية في مسار العلاقات الدولية، إذ كسر حاجز العزلة الطويل الذي أحاط بسورية لعقود، معلناً عن عودتها إلى قلب المشهد السياسي العالمي. إن رمزية الزيارة، بوصفها الأولى لرئيس سوري منذ حصول سورية على استقلالها، تتجاوز حدود البروتوكول الدبلوماسي لتعكس اعتراف واشنطن بالقيادة السورية الجديدة كقوة شرعية وفاعلة في الشرق الأوسط، فيما يبرز الهدف الأعمق لهذا الحدث في إعادة إدماج سورية في المجتمع الدولي وتثبيت سلطة الرئيس الشرع في مواجهة التحديات الداخلية المعقدة التي أفرزتها سنوات الحرب الطويلة. تمثّل هذه الزيارة مكسباً استراتيجياً للرئيس الشرع من حيث تعزيز شرعيته الداخلية وترسيخ مكانته في المشهدين العربي والدولي، فهي تمنحه دعماً سياسياً ومعنوياً لا غنى عنه لتثبيت الحكم ومعالجة الملفات الداخلية التي أثقلت كاهل البلاد. ويعد البعد الاقتصادي أحد أهم رهانات هذه القمة، إذ تشير التسريبات إلى بحث خطوات ملموسة نحو تعليق بعض بنود «قانون قيصر» أو حتى العمل على إلغائه، وهو ما سيشكّل دفعة حقيقية لإعادة الإعمار وتحسين الواقع المعيشي للمواطنين. أما على الصعيد الإقليمي، فإن الزيارة فتحت الباب أمام تحوّلات كبرى في بنية الصراع، لعل أبرزها إمكان بلورة اتفاق أمني بين سورية وإسرائيل بوساطة أمريكية، بما يضع حداً لواحد من أعقد الملفات في الشرق الأوسط. هذا التحوّل يعكس انتهاج دمشق سياسة جديدة تتّسم بالبراغماتية والتوازن، مبتعدة عن منطق المحاور التقليدي الذي حدد سياستها الخارجية لعقود، في حين أن إعلان انضمام سورية رسمياً إلى التحالف الدولي لمكافحة الإرهاب يمثّل مؤشراً واضحاً على رغبتها في بناء شراكات أمنية جديدة تعيد رسم صورتها كدولة مسؤولة ومؤثرة في محيطها. لم تكن هذه الانفراجة ممكنة لولا الجهود الدبلوماسية الحثيثة التي قادتها المملكة العربية السعودية خصوصاً الأمير محمد بن سلمان، التي لعبت دور الجسر السياسي بين واشنطن ودمشق وساهمت في تهيئة الأجواء لإنجاز هذا اللقاء التاريخي. فقد جاءت الوساطة السعودية امتداداً لسياسة واقعية هدفها دعم استقرار الإقليم وإعادة سورية إلى محيطها العربي والدولي، بما يخدم التوازنات الاستراتيجية في المنطقة. ويمكن القول إن القمة رسّخت عودة سورية كفاعل إيجابي في المعادلة الإقليمية، وأعادت إليها قدرتها على المشاركة في صياغة الحلول بدل أن تكون جزءاً من الأزمات. ومن المتوقع أن تفتح هذه الخطوة الباب أمام تدفق الاستثمارات العربية والدولية وإطلاق مشاريع مشتركة تعزز الأمن الاقتصادي والاجتماعي، بالتوازي مع توقيع اتفاقيات أمنية تضمن سلامة الحدود واستقرار الجوار. إن زيارة الشرع إلى واشنطن تمثّل تتويجاً لمرحلة انتقالية دقيقة عاشتها سورية، وبداية لعهد دبلوماسي جديد تتطلع من خلاله إلى استعادة مكانتها ودورها التاريخي. غير أن التحدي الحقيقي الذي ينتظر الرئيس الشرع هو في قدرته على ترجمة هذا الدعم الدولي إلى واقع ملموس داخل البلاد، يعيد الثقة إلى السوريين ويضعهم على طريق الاستقرار والازدهار بعد سنوات من المعاناة والاضطراب.
حين يتحدث رئيس دولة بموضوعية وبلغة العقل والواقع، يفترض أن يُقابل حديثه بالاحترام والتقدير، لا أن تنهال عليه سهام الإعلام المأجور الذي فقد بوصلة المهنة وشرف الكلمة، واختار الاصطفاف في خندق الضجيج والافتراء. هذا ما حدث تماماً مع الرئيس السوري أحمد الشرع عقب كلمته في مؤتمر الاستثمار في الرياض، حين أشاد بالدور الريادي للمملكة العربية السعودية، مؤكداً أنها تقود قاطرة التنمية في المنطقة، وتمثّل النموذج الذي يُحتذى به في الإدارة والتخطيط الاقتصادي والنهضة الشاملة. لم يقل الرجل سوى الحقيقة الواضحة التي يدركها كل من يتابع مسار التحوّل الذي تشهده المملكة خلال العقد الأخير، من استقرار سياسي واقتصادي، إلى إصلاحات هيكلية كبرى، إلى رهان واعٍ على الشباب السعودي كركيزة للتقدّم، إلى توظيف ذكي للتقنيات الحديثة في كل مفاصل الدولة. ومع ذلك، لم ترَ بعض المنابر الإعلامية في هذا الموقف سوى فرصة لتصويب سهامها نحوه، لا لسبب إلا لأنها لا تحتمل أن ترى نموذجاً عربياً ناجحاً يقود من دون وصاية أحد، ويصنع نهضته بإرادته لا بتوصيات المؤسسات الدولية أو بإملاءات الخارج. هذا الإعلام الذي يتدثر برداء الوطنية ويتغذى على الخطاب الشعبوي هو نفسه الذي يسكت عن الفساد ويُبرر الإخفاق، ثم يتجرأ على من يشهد بالحق لدولة عربية شقيقة تقف اليوم في مقدّمة الركب. ما قاله الشرع ليس مدحاً سياسياً عابراً، بل هو توصيف موضوعي لواقع ملموس، فالمملكة العربية السعودية باتت تمثّل اليوم مركز ثقل اقتصادي وسياسي في المنطقة، وهي الدولة الوحيدة التي استطاعت أن تجمع بين الرؤية الاستراتيجية والانضباط التنفيذي، وبين الأصالة والحداثة، وبين الثروة المادية والثروة البشرية. فهل يُعقل أن يتحوّل الإقرار بهذه الحقائق إلى «تهمة» تستوجب الهجوم؟ أم أن بعض الإعلاميين باتوا يرون في نجاح الآخرين مرآةً تعكس عجزهم وفشلهم في فهم المعادلات الجديدة؟ إن الإعلام الذي يهاجم الشقيق حين ينجح، ويمتدح الغرباء حين يفشلون، هو إعلام فقد انتماءه قبل أن يفقد مهنيته. إعلام لا يملك مشروعاً سوى تسويق الوهم وبث الغيرة المسمومة بين الشعوب. الإعلام الذي هاجم الرئيس السوري لم يفعل ذلك دفاعاً عن قضية أو عن مبدأ، بل لأنه لا يحتمل رؤية موازين القوة تتغيّر في المنطقة من الفوضى إلى الاستقرار، ومن الشعارات الجوفاء إلى الإنجاز الحقيقي. المملكة اليوم تصنع التاريخ الحديث للمنطقة بهدوء وثقة، ومن الطبيعي أن يزعج ذلك من اعتادوا على الضجيج وبيع الكلام. نعم، الخير الذي يصيب المملكة يصيب العرب كلهم، والاستقرار الذي تبنيه هو سياج يحمي المنطقة من الانهيار، أما الذين يسخرون من النهضة السعودية فهم أول من يهرع إلى طلب دعمها عند أول أزمة. لقد آن للإعلام أن يعود إلى رشده، أن يتخلى عن الغيرة المرضية والعداء المجاني، وأن يتعلّم أن الاعتراف بالنجاح العربي ليس ضعفاً بل هو قوة ومروءة وشهادة للتاريخ. المملكة لا تحتاج مديح أحد، ولكن من العيب أن يُحارب نجاحها من قبل إعلام عربي فقد صوابه، فصار يرى في كل ضوءٍ عربي مشعٍّ تهديداً لعتمته هو. وختاماً، فإن الهجوم على من يقول الحقيقة لا يغيّر الحقيقة، بل يزيدها بريقاً، وإن من يهاجم منطق الاعتدال والإنجاز، إنما يوقّع بيده شهادة سقوطه الأخلاقي والمهني أمام الرأي العام العربي.
القضية الأخيرة التي أثارت الجدل في سورية كانت قضية السيدة نغم عيسى، التي أُعلن قبل ستة أشهر عن اختفائها وسط اتهامات وُجّهت – صراحة أو ضمناً – إلى أجهزة الأمن السورية بأنها وراء الحادثة. إلا أن المفاجأة جاءت لاحقاً حين تبيّن أن السيدة المذكورة ما تزال على قيد الحياة وأنها تقيم في لبنان، وأن اختفاءها لم يكن سوى جزء من مؤامرة مدبرة لأهداف شخصية وسياسية في آن معاً، تستهدف بالدرجة الأولى تشويه صورة الدولة وإضعاف ثقة المواطنين بها. هذه الحادثة ليست استثناءً، بل أصبحت جزءاً من نمط يتكرر في الأسابيع الأخيرة، خصوصاً من قِبل أطراف معارضة أو متضررة من الحكومة الحالية، تسعى لإظهار سورية وكأنها دخلت مرحلة الفوضى الكاملة، ولزرع الشك في قدرة الدولة على ضبط الأمن وحماية المجتمع. ومع أن تلك الحملات الدعائية تسعى بوضوح إلى تدمير ما تبقى من استقرار، إلا أن المسؤولية لا تقع بالكامل على خصوم الإدارة الحالية، فالحكومة السورية نفسها تتحمّل جزءاً من العبء؛ لأنها لم تتعامل بالصرامة المطلوبة مع تكرار هذه الحالات، ولم تُظهر الحزم اللازم في تطبيق القانون أو في ملاحقة الذين يستخدمون الإعلام وسيلة لتضليل الرأي العام وإشعال الفتنة. إن أي نظام، مهما كانت عيوبه أو أخطاؤه أو حتى مظالمه، يظل في نهاية المطاف أفضل من حالة الفوضى التي تُفقد الدولة معناها وتُهدد حياة المواطنين ومصيرهم. التجربة السورية أثبتت أن غياب الانضباط القانوني، ولو لفترة قصيرة، كفيل بفتح أبواب الجحيم أمام الطائفية والعنصرية والانقسامات الاجتماعية. واليوم، مع تعدد الجهات الداخلية والخارجية التي تعبث بأمن البلاد، بدأ الإحساس العام لدى كثير من السوريين يميل إلى أن ثمة حالة من التسيّب والتراخي في تطبيق القوانين وفي ملاحقة المجرمين، ما يشجع آخرين على استغلال هذا المناخ المنفلت لخدمة أجنداتهم السياسية أو الطائفية. إن أخطر ما في هذه الظاهرة هو أنها لا تقتصر على تقويض ثقة الناس بمؤسسات الدولة، بل تتعداها إلى ضرب السلم الاجتماعي في الصميم، إذ غالباً ما يجري تقديم حالات الخطف أو الاختفاء وكأنها تستهدف فئات مذهبية أو طائفية معينة، مما يزرع بذور الكراهية والشك بين مكوّنات المجتمع السوري. هذه الفبركات الإعلامية لا تقتل الأفراد فحسب، بل تقتل الثقة التي تشكّل أساس التعايش الأهلي. يضاف إلى ذلك حالة الانفلات الإعلامي، إذ أصبحت بعض الوسائل الإعلامية المحلية والخارجية تمارس التحريض المكشوف، فتتحدث بخطاب طائفي وعنصري تحت ذريعة «الحرية الإعلامية»، في حين أن الحرية الحقيقية لا تنفصل أبداً عن المسؤولية، ولا يجوز أن تتحوّل إلى غطاء لتدمير النسيج الوطني أو للتحريض على الكراهية. من هنا، فإن الظروف الراهنة في سورية باتت تستدعي إعادة النظر جذرياً في السياسات الأمنية والإعلامية، بل وتفرض – من وجهة نظر قانونية وسيادية – إعلان حالة الطوارئ، وربما حتى فرض الأحكام العرفية في مناطق محددة ولمدة محددة، حمايةً للوطن والمجتمع من الانزلاق نحو الفوضى الشاملة. ليست حالة الطوارئ انتقاصاً من الحريات العامة بقدر ما هي وسيلة قانونية استثنائية تُمكّن الدولة من التصدي للأخطار غير العادية، خصوصاً في ظل أوضاع كالتي تعيشها سورية اليوم، إذ تتقاطع الأزمات الداخلية مع تدخلات إقليمية ودولية واضحة. لقد آن الأوان لأن تُظهر الدولة السورية، بمؤسساتها كافة، أن هيبتها ليست شعاراً بل واقع ملموس، وأن القانون ليس مجرد نصوص جامدة بل قوة رادعة لكل من يعبث بالأمن أو يستخدم الكذب الإعلامي سلاحاً.
منذ سقوط نظام الأسد برز إلى المشهد السوري الدور التركي والمطامع الإسرائيلية، وهو تنافس غير مباشر لكنه بالغ التأثير، تتقاطع فيه المصالح حيناً وتتعارض حيناً آخر، فينعكس سلباً على مستقبل الاستقرار في سورية. هذا التنافس الخفي حيناً والظاهر أحياناً أخرى يُعد أحد أهم معوقات عودة الدولة السورية ككيان موحد ذي سيادة، إذ إن تل أبيب تتعامل مع الأراضي السورية كمنطقة نفوذ أمنية، دون اعتبار كافٍ لآثار ذلك على المجتمع والدولة السورية. تركيا ترى في سورية عمقاً أمنياً لا يمكن التفريط به، وتسعى جاهدة لمنع قيام كيان كردي مستقل أو شبه مستقل على حدودها الجنوبية تمثله «قسد/YPG». في المقابل، تنظر إسرائيل إلى سورية من زاوية مختلفة تماماً، إذ تعتبرها بوابة النفوذ التركي إلى المشرق العربي، ولهذا تسعى تل أبيب إلى منع أي تموضع عسكري تركي على الأراضي السورية، فضلاً عن سعيها الدائم للحفاظ على تفوقها الجوي وأمن حدود الجولان. ورغم أن الجانبين تلاقت مصالحهما أحياناً، إلا أهدافهما النهائية متباينة؛ فتركيا تريد ترسيخ منطقة نفوذ تضمن أمن حدودها، فيما تركز إسرائيل على إضعاف الدولة السورية ككل لضمان تفوقها وردع خصومها في المنطقة، مما يجعل التنافس بينهما جزءاً من معادلة شدّ وجذب مستمرة تُبقي الأزمة السورية مفتوحة على احتمالات متعددة. هذا التنافس ترك بصماته الواضحة على الواقع السوري، إذ ما زال يساهم في إضعاف أي سلطة مركزية والتي تمثلها حكومة الرئيس أحمد الشرع والتي تحاول إعادة بناء الدولة، إسرائيل باتت تمثل عقدة في مسار الحل السوري لأنها تدعم قوى محلية تعمل خارج إطار الدولة، فتسعى لتكريس انقسام الجغرافيا السورية. وتبدو محافظة السويداء مثالاً حياً على هذا التفكك، حيث يتقاطع الفراغ الأمني الناجم عن انسحاب الجيش السوري مع الديناميكيات المحلية التي أنتجت تمرد «الهجري» وما يشبه الإدارة الذاتية المحدودة، في حين لا تبدي تركيا اهتماماً حقيقياً باستقرار الجنوب ما دام بعيداً عن حدودها. كما يعرقل هذا التنافس أي تسوية لملف «قسد»، إذ ترى أنقرة أن إنهاء وجودها شرط لبناء سورية آمنة، بينما تنظر إسرائيل (ومعها واشنطن) إلى «قسد» كأداة ضرورية للضغط على تركيا ودمشق في الآن معاً، ليجد السوريون أنفسهم أمام مشهد واحد هو منع إعادة بناء المؤسسة العسكرية الوطنية وبقاء البلاد في حالة «اللااستقرار». وسط هذا المشهد، تلعب الولايات المتحدة دور «ضابط الإيقاع»، فهي الحليف لكل من تركيا العضو في الناتو وإسرائيل الشريك الإستراتيجي، وتنجح في منع الصدام المباشر بينهما لكنها لا تقدّم حلاً حقيقياً. فواشنطن تدعم «قسد» عسكرياً، وتنسق مع تركيا استخباراتياً، وتغطّي الضربات الإسرائيلية سياسياً، ما يجعل سياستها خليطاً من التباينات التي تحافظ على توازن هشّ يمنع الانفجار لكنه لا يقرّب التسوية. الحل لا يمكن أن يأتي إلا عبر مبادرة أمريكية تجمع أنقرة وتل أبيب على طاولة واحدة، لتتحوّل إلى «قيادة دبلوماسية»، بما يضمن مخاوف تركيا الأمنية ويأخذ في الحسبان هواجس إسرائيل. فالمصلحة المشتركة بين الطرفين تكمن في إدراك أن استمرار الفوضى سيؤدي إلى عودة تنظيمات متطرفة مثل داعش. ومع ذلك، يبقى العائق الأكبر في الحكومة الإسرائيلية الحالية ذات النزعة المتطرفة التي يصعب أن تلعب دوراً بنّاءً في مشروع إقليمي متوازن، لكن يبقى الرهان قائماً على واشنطن بوصفها الطرف الوحيد القادر على ممارسة ضغط فعلي لتقريب وجهات النظر. وفي نهاية المطاف، تظل السيادة السورية هي جوهر أي حل حقيقي، إذ لا يمكن أن يستعيد الشرق الأوسط توازنه ما دامت سورية تُستخدم كساحة لتصفية الحسابات، فاستمرار هذا الواقع لا يعني سوى تكريس الفوضى التي لن يسلم من آثارها أحد.