كبرتُ بما يكفي لأفهم حقيقة موجعة: ليس كل يدٍ أمسكتنا كانت تنوي إنقاذنا، وبعض الأيدي لا تشدّك إلى الأمام بل تُبقيك حيث هي.

النضج لا يُقاس بعدد السنوات، بل بعدد الأوهام التي سقطت دون أن تسقط معها إنسانيتك.

الفيلسوف نيتشه كان قاسياً وصادقاً حين قال: «بعض الناس يأتون إلى حياتك ليختبروا قوتك، لا ليمنحوك الأمان». وهذه الجملة وحدها تكفي لتفسير لماذا يصبح الفكاك أحياناً فعل شجاعة لا خيانة.. نحن لا نترك الأشخاص لأننا قُساة، بل لأن البقاء مع من لا يشدّ على يدك استنزاف بطيء للروح.

في الأدب، لم تكن فكرة الانفصال يوماً ضعفاً! كافكا، في رسائله، كان يرى العلاقات التي تُقيّد الوعي خطراً وجودياً.. كان يخشى أن يتحول الإنسان إلى «نسخة قابلة للعيش» فقط لإرضاء الآخر! والعيش بنصف روح، في نظر كافكا، شكل آخر من أشكال الموت المؤجل.

أما ألبير كامو، فقد قدّم لنا مفهوم «التمرد الهادئ»؛ أن تقول لا، دون صراخ، ودون تبرير مطوّل.

أن تفلت يداً لأنك قررت أن تحترم عبثية العالم دون أن تضيف إليها عبثاً شخصياً. فالتمرد الحقيقي، عند كامو، هو أن تختار نفسك دون أن تتحول إلى جلاد للآخرين.

وفي الشرق، كتب أبو حيّان التوحيدي عن الصداقة بوصفها امتحاناً للعقل لا للعاطفة فقط. كان يرى أن من لا يقوى على شدّك وقت الحاجة، لا يستحق أن يُحمل في الذاكرة طويلاً. الحكمة القديمة كانت أكثر صرامة مما نتصور، لكنها أقل نفاقاً من مجاملات عصرنا.

نحن نعيش اليوم في زمن يقدّس «التمسّك» حتى لو كان مؤذياً، ويشيطن «الترك» حتى لو كان ضرورة نفسية، لكن الحقيقة غير الشعبية هي هذه: بعض العلاقات لا تُنقَذ، لأنها لم تُبنَ أصلاً على الندية، بل على الحاجة، أو الخوف، أو الوهم.

كبرتُ بما يكفي لأدرك أن اليد التي لا تشدّ عليك في لحظة ضعفك، ستثقل عليك في لحظة قوتك. وأن الإفلات ليس انسحاباً، بل إعادة تموضع.. ليس هروباً، بل اصطفاف أخلاقي مع الذات.

هذا النضج لا يجعلنا أقل رحمة، بل أكثر دقة. لا نكره، ولا نشتم، ولا نُصفّي الحسابات.. فقط نُغلق الباب بهدوء، كما يفعل الحكماء، ونمضي.

وكما كتب هرمان هِسّه: «بعض الرحلات لا تكتمل إلا حين تمشي وحدك».

وهذا، في جوهره، ليس فقداً، بل بداية متأخرة للشجاعة.