ما تزال مجالس الإدارات في معظم الجهات الحكومية بعيدة عن أداء دورها الفعلي، فالصلاحيات والمهمات المُناطة بها بموجب الأنظمة الصادرة بأوامر ملكية وقرارات مجلس الوزراء هي مهمات كبيرة ومحوريّة، إذْ تقع عليها مسؤولية رسم إستراتيجية الجهة والتحقق من نجاعة برامجها ومشروعاتها والإشراف على إدارتها وأدائها وتصريف أمورها، وإقرار السياسات والخطط التي تُحقق أهدافها، لكن في الواقع فإن دور هذه المجالس محدود وأثرها ضعيف، فالإدارة التنفيذية غالباً ما تستحوذ على مهمات مجلس الإدارة، بل وتستخدمه في تمرير واعتماد برامجها ومشروعاتها حتى وإن كانت تلك البرامج ضعيفة وغير متماسكة.
السبب في ذلك يرجع إلى عوامل عدة؛ أحدها نظام ترشيح رؤساء المجالس وأعضائها، وأيضاً آليات عملها، فرئيس مجلس الإدارة يُرَشَّح وفقاً لمبدأ ارتباط وتقارب التخصص مع القطاع الرئيس (الوزارة)، بمعنى أن أي هيئة أو مركز أو مؤسسة حكومية، يتولى رئاسة مجلسها المسؤول الأول في القطاع المركزي المرتبط بتخصص الجهة (غالباً وزارة).
والواقع أن كثرة مسؤوليات رئيس مجلس الإدارة والأعضاء وتعدّد مهماتهم ومشاغلهم تجعلهم يتعاملون مع هذه الوظائف وكأنها مناصب شرفية، فأحد المسؤولين يرأس أكثر من (25) مجلس إدارة جهة حكومية ما بين هيئة ومركز ومؤسسة، ويتمتع بعضوية أكثر من (30) مجلساً، إضافة إلى مسؤولياته الجسيمة في قيادة جهة حكومية تتكون من ثلاثة قطاعات ضخمة، فإذا افترضنا أن لديه القدرات الفردية الكافية للإسهام الفاعل والنّوعي في هذه المجالس، فمن أين له الوقت؟! كما أن آليات عمل المجالس يعتريها الضعف، فمحاضر الجلسات تُعدّها الجهة نفسها، إضافة إلى أن المجالس تقوم في هيكلتها التنظيمية على اجتماع أعضاء المجلس أربع أو خمس مرات في السنة؛ فكيف يمكن تحقيق مهمات ومسؤوليات المجلس الكبيرة المنصوص عليها بنظام الجهة بهذا العدد من الجلسات؟!
تنظيم مجالس الإدارات في الجهات الحكومية يحتاج إلى مراجعة وتحديث وتطوير وإعادة هيكلة. ومن بين المقترحات التي يمكن أخذها في الاعتبار النقاط التالية:
- فك ارتباط رئاسة مجلس الهيئة أو المركز بالجهة المركزية في التخصص (الوزارة)، فالهيئات والمراكز الحكومية تقوم في بنائها التنظيمي على مهمات واختصاصات واضحة ومحددة، وفك الارتباط بوزير القطاع سيحقق فوائد في الرقابة والحوكمة وتطوير الأداء والمساءلة والمحاسبة، أما موضوع ضمان توحيد السياسات ما بين الوزارة والهيئة أو المركز - في حال كان الوزير هو رئيس المجلس - فهي حجة لا تستند على مبدأ تنظيمي متين، فالعمل المؤسسي المُحَوكم ليس مرتبطاً بالأفراد، فالأصل أن الوزارة هي من يضع السياسات والإستراتيجيات العامة للقطاع بكل مؤسساته الفرعية، والقطاعات الفرعية - المستقلة تنظيميّاً- يُفترض أنها تقوم على خطة إستراتيجية محددة الأهداف والآليات، ويكفي أن تُمَثَّل الوزارة بعضو في مجلس الإدارة.
- إعادة النظر في ترشيح (مُمثّلين) عن الجهات الحكومية في مجالس الإدارات، فهؤلاء لا يضيفون شيئاً للمجالس، ويغلب على أدائهم المجاملات وتبادل المصالح، والمُلاحظ أن عدد مُمثلي الجهات الحكومية في المجالس يصل إلى 80% من الأعضاء.
- ضخّ ثقافة جديدة في نظام المجالس تقوم على الإنجاز من خلال ترشيح كفاءات من المتخصصين المِهَنيّين لرئاسة هذه المجالس وعضويتها، فالمملكة وبفضل استثمارها في المورد البشري تملك كفاءات عالية التأهيل ومتمكنة من تخصصها ومجال عملها، وتُعدّ الجامعات والشركات الكبيرة أرضاً خصبة للقيادات والكفاءات المؤهلة، وبالإمكان ترشيح كفاءات متخصصة (في مجال وتخصص الجهة) ممّن ليس لديهم مسؤوليات ومناصب كبيرة ومتعددة بحيث تتركز جهودهم واهتمامهم في أعمال المجلس وخدمة القطاع.
- زيادة عدد الحد الأدنى لانعقاد جلسات المجلس في السنة، وتحديد اختصاصات المجلس بصورة واضحة، وتقليص تفويض صلاحيات المجلس للإدارة التنفيذية، وتفعيل مبدأ المحاسبة والمساءلة لأعضاء المجلس، وتشكيل إدارة/أمانة تنفيذية للمجلس ترتبط برئيس المجلس وليس برئيس القطاع، تتولى إعداد الموضوعات وتجهيزها وصياغة المحاضر، ويمكن أن يُرشح أحد أعضاء المجلس لرئاسة هذه الإدارة، بحيث تكون مستقلة عن الإدارة التنفيذية للجهة.
(رؤية 2030) تلامس هذا الموضوع، وتؤكد أهمية تحديد الاختصاصات لتفعيل المسؤولية والمساءلة: «سنعمل على إعادة هيكلة مستمرة ومرنة لأجهزتنا الحكومية، تُلغي الأدوار المتكررة، وتسعى إلى توحيد الجهود وتسهيل الإجراءات وتحديد الاختصاصات بشكل واضح، وتفعيل مسؤولية الجهات في تسلّم مهماتها بشكل يسمح لها بالتنفيذ ويُمكّن المساءلة».