-A +A
محمد مفتي
على الرغم من انتهاء القمة العربية التي انعقدت بمدينة جدة منذ عدة أيام، إلا أن أصداءها لا تزال محل التحليل والنقاش من قبل العديد من الخبراء والمحللين السياسيين، ذلك أنها انعقدت وسط أجواء عالمية وإقليمية ساخنة ووسط أجواء بالغة الحساسية، وهو ما تطلب جهداً استثنائياً من قادة المملكة الذين تمكنوا وبنجاح منقطع النظير من عقدها في تلك الظروف الاستثنائية.

من المؤكد أن أحد أهم أحداث القمة هو عودة سوريا للجامعة العربية، وهي الخطوة التي أيدتها المملكة انطلاقاً من حرصها على مصلحة الشعب السوري الشقيق، فإبعاد سوريا هو إبعاد للشعب السوري الذي يطمح في العودة للبيت العربي الكبير بعد ما يزيد على عشر سنوات شاقة من الحرب والتمزق، ومن المؤكد أن إدارة ولي العهد الأمير الشاب للقمة كانت انعكاساً للسياسة الخارجية السعودية المتوازنة، وهو ما ظهر جلياً في توصيات القمة.


كما أن استضافة الرئيس الأوكراني زيلينسكي كانت أحد أهم أحداث هذه القمة العربية، والتي عرضت وساطتها لحل الأزمة الروسية-الأوكرانية العالقة منذ ما يقرب من العام ونصف العام، وهو ما تتم ترجمته مباشرة لما باتت تتصف به الدول العربية من نفوذ وقدرة على التمثيل الدبلوماسي والسياسي الرفيع القادر على التدخل في الأزمات العالمية وحلها، فعالمنا اليوم يحتاج التوازن ويتطلب الحكمة والمرونة في إدارة شؤونه، ولجوء أوكرانيا للدول العربية في قمتها المنعقدة في المملكة العربية السعودية يؤكد إدراكها لقوة الدول العربية وقدرتها على إحداث تغييرات جوهرية في سير الأحداث الراهنة.

من الملاحظ أن هذه القمة انعقدت عقب سلسلة من الأحداث المهمة التي قامت بها المملكة مؤخراً لتصفية الخلافات وإزالة الشوائب العالقة بين الدول، فقد انعقدت عقب المصالحة التاريخية مع إيران بوساطة الصين، والتي نتج عنها هدوء عام في الأجواء داخل المنطقة بخلاف العديد من النتائج الإيجابية الأخرى المتعلقة بالعديد من الملفات وأبرزها الملف اليمني، كما أتت عقب عودة العلاقات السورية – العربية والتي هدفت في المقام الأول والأخير لإنقاذ الشعب السوري وتقليل حدة معاناته، كما أنها انعقدت عقب رعاية المملكة للمفاوضات التي جرت بين الأطراف السودانية في محاولة للوصول لعلاج للأزمة المندلعة هناك، وهو ما يعني أن المملكة تسير قدماً وبنجاح في نهجها الإستراتيجي الذي يقدم صورة حقيقية للمملكة باعتبارها راعية السلام إقليمياً وعربياً.

كثيرة هي النتائج الضمنية وغير المباشرة التي يمكن استخلاصها من مخرجات تلك القمة، غير أن التمعن في قراءة ما بين سطورها يوضح إلى أي مدى تغيرت موازين وقوى العالم، ولعل أحد أهم النتائج التي يمكننا استخلاصها بوضوح هو إدراك الدول العربية أن صمام أمانها ينبع من قدرتها على التماسك بصلابة في وجه المحاولات الخارجية التي تسعى لزعزعة أمنها واستقرارها، فبعض القوى الخارجية تنخر فعلياً في عظام بعض الدول هادفة إلى خلخلتها وتدميرها بالكامل، والوعي بتلك المحاولات واستئصالها من البداية هو الحل الوحيد لبسط الأمن والاستقرار، فالدول التي انتشرت فيها الفوضى بسبب التدخلات الخارجية التي ساهمت في اندلاع حروب أهلية بين ظهرانيها أمامها مشوار طويل جداً قبل أن تستطيع التماسك مرة أخرى.

نتائج القمة وتوصياتها ليست مجرد حبر على ورق، بل هي توصيات جادة على كل طرف منخرط فيها أن يراعي تنفيذ الجزء الذي يقع على عاتقه منها، ولو لم يتم التعامل مع توصيات تلك القمة بالجدية الكافية فسنظل ندور في دائرة مغلقة، كل عام نقرر نفس القرارات ونوصي بنفس التوصيات دون تقدم، فالوعي بتطورات الواقع والتكيف طبقاً لها ومحاولة إيجاد مكان لنا تحت الشمس كقوة عربية تتمتع بكل ما يلزمها لأن تكون موثرة وفعالة فيما يجتاح العالم من أحداث وتغيرات، هو أولى الخطوات التي يتعين علينا القيام بها إن كنا نرغب بصدق في أن تستقر المنطقة وتزدهر ويعمها الرخاء.