-A +A
نجيب يماني
منذ انطلاقة كأس العالم الأخير والأفضل والأجمل في دولة قطر، لازمني حنين جارف إلى صباي وباكر حياتي، فما إن تنطلق مجريات المباراة، حتّى تتحول الشاشة البلورية أمامي إلى مسرح خاصٍّ بذكرياتي، ويرحل خيالي ويتجسّد لاعبًا «حريفًا» يجري، ويحقّق أحلامًا طوتها الأيام دون رجعة، فكم حرست مرمى «الأخضر» في المونديال من كرات خطرة، وراوغت المدافعين الأشاوس، وسجلت برأسي وكلتا قدمي أهدافًا وأهدافا، ورأيتني محمولاً على الأعناق تهتف باسمي الجماهير، وتتصدر صورتي القنوات ووسائل الإعلام المختلفة، وتكرّمني جهات الاختصاص، وتتهافت عليَّ الأندية تخطب ودّي وتطلب انضمامي إليها، وأنا أتمنّع، وأغالي وأبالغ في الشروط.. ولا أرجع من أحلام اليقظة هذه إلا بعد أركل ما يوضع أمامي، إثر دفاع مستميت، أو هجمة «شرسة» في الخيال.. عودة للواقع تبقى «مجروحة» بواقع عاجز، امتلأت سلته باكرًا بحب هذه «المستديرة الساحرة»..

ادخل معي في أحلامي، ستراني الآن شابًا يافعًا لون جلده سموم مكة المكرمة محملاً من ينابيع الصفاء الروحي يغسل الأوجاع ويزيل الخوف، حيث مسقط رأسي ومرتع أُنسي وصباي. كانت كرة القدم هي تسليتنا الوحيدة في تلك الأيام لم نكن نمتلك ترف خيارات أخرى مثل جيل اليوم، كُنّا نلعبها في أيّ مكان في صالة المنزل أو حتى في البلكونة وغالبًا في برحة الحارة، بعد العهود والوعود أن نرجع قبل غروب شمس اليوم.


كانت قمّة سعادتنا تحضر في حصّة الرياضة المدرسية، كُنّا نستعد لها من الليل، نُخرج طقم الملابس الرياضية نتفقده.. نكوي طيّاته، ونسوّي تعرّجاته ونضعه بعناية فوق الكرسي بجوار السرير يسافر معنا في أحلامنا المؤجلة لهذه الحصة المنتظرة، نحلم بأهداف في مرمى الخصم ومحاورات ومراوغات وصوت المشجعين من زملاء الدراسة يرن في أسماعنا نقيًا شجيًا.

كان مدرّس الرياضة هو أحب المدرّسين إلى قلوبنا؛ الأستاذ عبدالوهاب صبان، والذي رأَس نادي مكة المكرمة العريق نادي الوحدة أول أندية المملكة من ناحية النشأة والتكوين.

كان يقسّم الفصل إلى فريقين ويعلن ضربة البداية، كان هو الحكم والمدرّب وأستاذ المادة، وكانت حصة الرياضة هي غالبًا الحصة الثالثة والتي نستمر نتكلم عن أحداثها ونحلل وقائعها ونحكي حكاية أهدافها حتى نهاية اليوم، ندخل في نقاشات وحوارات قد تنتهي عند بوابة المدرسة آخر النهار بمناوشات يتدخل فيها الطيّبون وتنتهي المشكلة.

كانت «عصاري» مكة المكرمة ولا أجمل تغرينا بالخروج من المنزل لنزاول لعبة كرة القدم في (البرحة)، فقد كانت أغلب حواريها بها برحة واسعة يستخدمها سكان الحي في الأفراح والأتراح، ونستخدمها نحن في مزاولة لعبة كرة القدم عصر كل يوم وحتى صلاة المغرب.

في هذه (البرحات) تُقام مباريات بين الحواري، نرفع راية التحدّي، ونستعد لفريق الحارة الأخرى نرش أرضية الملعب الترابية بالماء، ونتشارك في شراء مادة «الجبس» البيضاء، نخطّط بها الملعب من الأطراف مع وضع ثلاث خشبات كمرمى للأهداف، كُنّا نخرج بجروح في اليد، وكدمات في الساق، والتواء في الكاحل، وتنتهي المباراة عند أذان المغرب. نغسل جروحنا بفرح ونصلّي في مسجد الحي، ونذهب إلى المنزل لنحل واجباتنا المدرسية حتى أذان العشاء، نصلّي ونخلد إلى النوم العميق حتى شروق شمس اليوم التالي.

كنتُ ألحظ في كثير من مباريات الحواري حضور أمين العاصمة المقدّسة الأستاذ عبدالله عريف، والذي كان رئيسًا لنادي الوحدة لسنوات طويلة، يراقب بعين خبير هذه المباريات ويحرص على حضورها، وكان هدفه هو اختيار لاعبين يتمتّعون بمهارات كروية عالية، ليستقطبهم لنادي الوحدة، ليصبحوا لاعبين أساسيين في النادي، فكم جادت هذه الحواري على الأندية بأفضل اللاعبين مهارةً ودراية وخبرة، أذكر منهم حسن دوش، وجميل فرج، وسليمان بصيري، وأبويحيى وماجد عبدالله، وغيرهم كثير. كانوا لاعبين كرة في الحواري وبراحاتها المختلفة، ولعل ملعب الورشة في المسفلة هو الأقدم في مكة المكرمة، فقد رفد الكرة السعودية بأفضل المهارات الكروية.

كان هناك دوري يُطلق عليه «دوري الحواري»، تلعب فيه مجموعة من شباب الحي، يقدّمون إبداعات كروية فنية حتى إنها كانت تجذب إليها محترفي كرة القدم من الأندية للعب فيها، ويذكر التاريخ أن مدينة جدة قد شهدت مباريات أندية الحواري قبل ثلاثين عامًا في حي الهنداوية، وإن كانت مكة المكرمة هي الأسبق في مزاولة كرة قدم الحواري وهي أيضاً موجودة في أغلب مدن المملكة ولها دوري خاص بها، لما لها من أهمية في اكتشاف المواهب المخفية.

كان حزني يكبر كلما قامت في تلك الحواري غابة أسمنت تحرم الشباب من ممارسة رياضتهم المفضلة

اليوم ومدننا السعودية تُبنى من جديد بعد أن امتدت إليها يد التنمية وإزالة العشوائيات والتشوّهات وجعلها مدن نموذجية، فهلا أولت البلديات بالتنسيق مع وزارة الرياضة الاهتمام بأمر تهيئة مساحات في كل حي ليزاول فيه شباب الحي وبناته هوايتهم في كرة القدم، وتكون بمثابة لبنة للاعبي المستقبل؛ فالأندية الرياضية الحالية محدودة، ولا تكفي عشاق هذه المدورة الفاتنة، إضافة إلى الرسوم العالية التي تفرض على طالبي العضوية.

في كأس العالم الأخيرة بقطر شهدنا مدى الاهتمام بهذه اللعبة، وكيف وحّدت شعوب العالم حضورًا ومشاهدة، وأثبتت أن لهذه الفاتنة سحرًا لا يقاوم، وجاذبية يقع في مدارها الكبير والصغير، والغني والفقير، وأنها الأكثر تأثيرًا في العالم، وأنها صارت صناعة تستوجب التحضير الأمثل، والرعاية الباكرة، فاجعلوا من مراكز الأحياء والبراحات وأراضي البلديات في الحواري والأحياء ملعبًا مفتوحًا لتنمو المواهب بفطرتها وسجيتها، واستكشفوها من هناك، وأصقلوها من ثمّ بالتدريب والمران والاحتراف، ولا تقفوا بينها وبين أحلامها الغضة بغابات الأسمنت الخرساء. إنهم ثروة وطنية يجب رعايتها والعناية بها.