-A +A
عصام الهجاري
قبل مائة عام تحديداً، في التاسع عشر من عام ألف وثلاثمائة وأربعة وأربعين، من هجرة الحبيب المصطفى صلى الله عليه وآله وسلّم (19/‏ 5/‏ 1344هـ) - دخلَت المدينة المنورة تحت سلطان الملِك عبدالعزيز وحكمه سِلْماً، فانتدب إليها نَجْله الأمير محمد بن عبدالعزيز، فدخلها مؤمّناً أهلها من غير إراقة قطرة دم رعاية لحرمتها ومكانتها وفضلها، وهو الأمر الذي كان يهتمّ له الملك عبدالعزيز اهتمامَه بنفسه وأهله، وثَمّة مواقف مضيئة في حياته معها تشير إلى ذلك.

ففي رسالة الملك عبدالعزيز للملك فؤاد جاء في ثناياها قوله: «إنّ حرم المدينة كحرم مكّة، نفديه بأرواحنا وكلِّ ما نملك، وإنّ دِيننا يحمينا عن الإتيان بأي حدَث في المدينة المنورة، وسنحافظ على آثار السَّلف وكلِّ ما هو في المدينة المنورة، ممّـا يَهُمّ كلَّ مسلم المحافظة عليه».


وكان رحمه الله... يوصي قائده إبراهيم النشميّ بأخذ أهل المدينة بالسياسة والحكمة والحزم في موضعه، من غير إفراط وقسوة، وإبعاد كل أسباب ذلك بحنكة وعقل وبصيرة.

بل وضرب أروع الأمثلة في سموّ أخلاقه أثناء حصار جيوشه للمدينة، حيث كانت تدعم أهلها بالمُؤْنة والغذاء؛ ليرفعوا عن الناس داخلها فاقتهم وحاجتهم، فالحرب معلوم أن لها أثاراً، ولكنّ المروءة كانت حاضرة سرّاً وجهاراً.

ولما قدم -رحمه الله- المدينة واحتفى به أهلها، خاطبهم قائلاً، وكأنّه واحد منهم: «فكبيرهم أبي، ومَن هم في سِنّي إخواني، وهؤلاء الصِّغار أولادي، جئت لأسمع الشكوى من أيّ مواطن».

وعند دخول الملك عبدالعزيز رحمه الله لمسجد النبي -صلى الله عليه وسلم- أسس منهجًا تاريخيًا، ووضع قاعدةً بأن: «يبقى كل قديم على قِدَمه».

ولما وجد بعض المخالفات الشرعية لم يحمل الناس على رأيه، أو رأي مَن كان معه من العلماء الذين قدِموا معه، بل جعل الفتوى في ذلك لعلماء أهل المدينة المنورة، وكتب لهم بِرُقِيّ في العبارة واحترام حَرِيّ بكلّ مسؤول أن يسلك طريقته فيها، فجاء في صحيفة أمّ القرى من سؤاله لهم ما نصّه: «ما قول علماء المدينة المنورة ـزادهم اللّه فهماً وعلماًـ في البناء على القبور، واتِّخاذها مساجد، هل هو جائز أم لا؟ وإذا كان غير جائز بل ممنوع منهيّ عنه نهياً شديداً، فهل يجب هدمها، ومنع الصلاة عندها أم لا؟ وإذا كان البناء في مُسبَّلة كالبقيع، وهو مانع من الانتفاع بالمقدار المبنيّ عليه، فهل هو غصْب يجب رفعه لِمَا فيه من ظلم المستحقين ومنعهم استحقاقهم، أم لا؟ وما يفعله الجهّال عند هذه الضرائح من التمسّح بها ودعائها مع الله، والتقرّب بالذبح والنذر لها، وإيقاد السُّرُج عليها هل هو جائز أم لا؟... أفتونا مأجورين، وبيِّنوا لنا الأدلة المستند إليها، لا زلتم ملجَأ للمستفيدين».

فأجابه علماء ومُفتو وفقهاء وقضاة المدينة المنورة من المذاهب الأربعة جواباً محرّراً مؤصّلاً تأصيلاً علميّاً، بما فيه صيانة الشريعة وحفظها من الوقوع في أي محظور بأيّ وسيلة.

والشاهد في هذا سَعة أفقه وانفتاحه على الآراء والأقوال الأخرى، من المذاهب الفقهيّة المعتبرة المختلفة، وعدم حمل الناس على رأيه.

ويشهد لهذا اهتمام وعناية الملك في طبعه للكتب العلمية، حيث نجده لم يكتفِ بطبع كتب المذهب الحنبلي فقط، بل طبع كتباً ومصادر أصيلة لعلماء الأحناف والشافعية، فطبع للمذهب الحنفي: نَصْب الراية لأحاديث الهداية، للإمام الحافظ الزَّيلعي، من كبار فقهاء الحنفية في عصره؛ وطبع لفقهاء وأئمة المذهب الشافعي عدة كتب، منها: جامع الأصول لأحاديث الرسول، للإمام ابن الأثير؛ وكذلك طبع: تفسير القرآن العظيم، للإمام الحافظ ابن كثير، وتفسير معالم التنزيل، للإمام البَغَويّ، والأوّل يعرف بتفسير ابن كثير، والثاني بتفسير البغوي، وكلاهما من كبار أئمّة الشافعية، وغيرهم ممن يطول المقام بذكرهم، والذين تتبعتهم في سلسلة في حسابي في تويتر بعنوان: ‏#عناية_الملك_عبدالعزيز_بنشر_العلم_والثقافة ودعم حركة الطباعة.

ومما يستحق الذكر والدعاء والشكر ما ليس بخافٍ على كل مطّلع على تاريخ الحرمين الشريفين، كيف أنّه -رحمه الله- جعل توسعة المسجد النبوي من أكبر همومه، فأمر بِإعادة إعماره وتوسعته على نفقته الخاصّة، ونشرته الصحف السعودية آنذاك، ومنها صحيفة المدينة، يوم الخميس ٨/‏٥/‏١٣٧٠هـ، وأشرك كبار المهندِسين من مصر وباكستان، في إعداد التقارير الهندسية المتعلّقة بذلك، وانتهت أعمال اللجنة الهندسية المصرية في 1/‏ 6/‏ 1947م، غير أنّ الأجل وافى الملك عبدالعزيز قبل الانتهاء من أعمال التوسعة السعودية الأولى، فافتُتحت وأُعلنت للعالم الإسلامي في حفل مَهِيب من قبل نجله الملك سعود عام 1375هـ، وسار أبناؤه الملوك البررة من بعده في الحِفَاظ على رسالته، في الاهتمام بالحرمين الشريفين، بتوسعات وخدمات لم تحصل من قبل عبر التّاريخ، حتى وقتنا الذي شُرعت فيه التوسعة السعودية الثالثة، وباهتمام كبير من خادم الحرمين وراعي البيتين الملك سلمان بن عبدالعزيز، وفّقه الله لإنجاز هذا العمل العظيم المبارك الذي يحبّه الله سبحانه وتعالى، ويُسرّ به ساكن المدينة وزائِرها.

وها هو اليوم حفيد الملك المؤسِّس -رحمه الله- ونجل الملك الناهض -حفظه الله- البارّ بهما وبأسلافه، أمير المدينةِ سيّدة البلدان الأمير فيصل بن سلمان يسير على نهجهم وخطاهم ويعمل على أثَرهم بلا كلَل وملل، وبصمت من غير ضجيج، وبلا استشراف وسمعة ورياء، مقتفياً في إعادة هُويّة المدينة التاريخية والحضارية طريقَ أهل العلم والاختصاص النبلاء، حتى أصبح ساكنها وزائرها يستنشق عبير أصالة تاريخها الماضي وجمال حاضرها الحالي، وكأني بلسان حال سموه يستشعر عظمة وفضل هذه المدينة المباركة كما قال القاضي عياض:

«وجدير لِمَواطِنَ عُمِرت بالوحي والتنزيل، وتردّد بها جبريل وميكائيل، وعرجت منها الملائكة والروح، وضجّت عَرَصاتها بالتقديس والتسبيح، واشتملت تربتها على جسد سيد البشر صلّى الله عليه وسلم، وانتشر عنها من دِين الله وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم ما انتشر، مدارس آيات، ومساجد وصلوات، ومشاهد الفضائل والخيرات، ومعاهد البراهين والمعجزات، ومناسك الدين، ومشاعر المسلمين، ومواقف سيّد المرسلين صلى الله عليه وسلّم، ومتبوّأ خاتم النّبيِّين صلى الله عليه وسلم، حيث انفجرت النبوة، وأين فاض عُبابها، ومواطن مهبط الرسالة - أن تُعظّم عرَصاتها، وتُتنسَّم نَفَحاتها».

وكيف لا وهو القائل يوم وصل إلى مدينة رسول الله صلّى الله عليه وآله وسلّم، بعد أن حظي بثقة خادم الحرمين، في شرف توليه إمارة المدينة المنورة: «أستشعر فيه عظم مسؤولية هذا التكليف؛ لكونه يرتبط بالمدينة المنورة مهاجَر ومثوى نبيّنا محمّد صلى الله عليه وسلم، وموئِل مسجده»، وقد ترجم هذه المشاعر بنهضة رائدة في جميع مناحي الحياة المختلفة: دينيًا، إنسانيًا، تاريخيًا، حضاريًا، تراثيًا، ثقافيًا، تنمويًا، عمرانيًا، بيئيًا، صحيًا وتعليميًا، ستقبى بعون الله آثارها شاهدة له عند الله سبحانه وتعالى، ويحمدها ساكن وزائر المدينة المنورة، في ظل توجيهات خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبدالعزيز وفقه الله وسدده.

وهكذا هم ولاة الأمر، ملوك المملكة العربية السعودية وأمراء المدينة المنورة النبويّة، من آل سعود في اهتمامهم بالحرَمَين الشريفين، كالنّجوم (إنْ غاب نجم بدا نجم).