-A +A
نجيب يماني
أكاد أجزم، وأنا على ثقة ويقين تامين، أنّ العالم، كلّ العالم بلا استثناء، في حالة ترقّب وانتظار لما ستسفر عنه نتائج زيارة الرئيس الصيني إلى المملكة، ذلك لكونها زيارة خارج الإطار التقليدي المألوف، تتقاطع في أفقها جملة من الحدوس والتكهنات، بالقياس إلى اشتمالها على ثلاث قمم في غاية الأهمية للمحيط الإقليمي والعالمي على حد سواء، فثمة قمة سعودية - صينية، وأخرى صينية – عربية، وثالثة خليجية – صينية، فهذا الاحتشاد الذي هيّأت المملكة أسبابه للعرب والخليجيين مع الصين، لا يمكن أن يفهم على اعتباره حدثًا عابرًا ينتهي بمراسم الترحاب، والتطمينات الدبلوماسية التي عادة ما تظل مسيجة في إطار العبارات المحفوظة والأكليشيات الباردة من شاكلة «ندعم..، ونقف مع..، وندين.. إلى آخره»، ولكنه حدث سيدير البوصلة باتجاه تغيّر دراماتيكي كبير في جوهر العلاقات الدولية في المستقبل القريب المنظور، ويدعم ذلك توقيت هذه الزيارة، والتي أتت في ظروف بالغة التعقيد جرّاء الحرب الدائرة رحاها حاليًا بين روسيا وأوكرانيا المدعومة من الغرب، بما يجعل منها «حربًا كونية ثالثة غير معلنة بشكل رسمي»، ومحاولة الغرب بقيادة حلف «الناتو»، وخاصة الولايات المتحدة، تجييش الجميع ضد روسيا، بفرضية ولاءت قديمة، وتحالفات مضمونة، وهذا ما أفلحت فيه على المستوى الأوروبي، ولكنها فشلت فيه على مستويات أخرى، الأمر الذي يعني – صراحة أو ضمنًا – أننا أمام لحظات مفصلية يشهدها العالم، تنسف – أو تكاد تنسف – كل المسلّمات القديمة، وتعيد ترتيب خريطة العلاقات على قواعد جديدة، غير التي تمخضت عنها مخرجات الحرب الباردة، وسيادة القطب الأوحد، وفرض الهيمنة بإعادة إنتاج المفهوم الاستعماري بتمظهرات مختلفة، الغاية منها تكريس التبعية، وفرض القناعات بوسائل الضغط، والقهر المعروفة..

إن عالم اليوم آخذ في التشكّل على قواعد الاستفادة الاقتصادية المحضة، وماضٍ نحو اجتراح صداقات مع دول تملك أسباب التقدّم، وراغبة في المشاركة مع غيرها على أساس احترام العلاقات، ورعاية الأعراف الدبلوماسية في أسمى تجلياتها، وناظرة المصالح المشتركة، بعوامل المرونة، والصدقية، والفائدة المتبادلة، وهو ما يتوفّر بشكل جوهري وأساسي في جمهورية الصين، بما جعل من زيارة رئيسها للمملكة العربية السعودية، حدثًا يقع في دائرة هذا التغيير الدراماتيكي، وهو تغيير يشمل الخليج العربي كله، والوطن العربي، بما يعني بداهة تشكيل قطب جديد في المشهد العالمي، يتمتع بكل أسباب القدرة على التأثير في المشهد العالمي، قياسًا على الإمكانات المهولة التي تتمتع بها المملكة، ودول الخليج العربي، والدول العربية قاطبة، مع جمهورية الصين، التي تمثل اليوم قوّة اقتصادية كاسحة، لا يستطيع أحد كبح جماحها، أو وضع المتاريس أمام تيارها الجارف، بمصدات التأثيرات السياسية، وخلق بؤر التوتر حولها، واصطناع المعيقات أمام سيطرتها المطلقة، فاجتماع هذه القوة الاقتصادية مع ما يزخر به الشرق الأوسط بمكوناته المختلفة، حري بأن يشكّل حلفًا إستراتيجيًا مثمرًا، من شأنه أن يعيد ترتيب المفاهيم على نحو جديد، ويفك عن المنطقة العربية أغلال الارتهان لعلاقات فرضت عليها قهرًا، وظلت رهنًا لها بإرادتها أو دون إرادتها، وهو عين من فهمته المملكة باكرًا، واستشرفته وعيًا من خلال رؤية 2030، التي فجّرت الطاقات، وغيّرت المفاهيم، وجعلت ما كان يبدو عصيًّا مستحيلاً، ممكنًا وواقعًا؛ ولم يقف وعي قيادتها عند هذا الحد؛ بل يتراحب واعيها اليوم بهذه الزيارة لتشكل بمخرجاتها حلفًا جديدًا قادرًا أن يعيد للعرب مجدهم، من نافذة الاقتصاد والمصالح المشتركة، بعيدًا عن الشعارات الساسية البالية، والمزايدت الرخيصة، والآيديولوجيات المفخخة، والأحلام غير المنضبطة، لتؤكد المملكة وقيادتها من خلال ذلك، وقراءتها للمشهد قراءة سديدة، على ريادتها غير المتنازع عليها، وموقعها الطليعي المتقدم في العالم العربي..


نعم؛ سيكون لهذه الزيارة، والقمم الثلاث التي تضمنتها، ما بعدها، وسيتعدى تأثيرها المحيط الإقليمي ليهزّ قناعات كثيرة ظلت «معلبة» لزمن ليس بالقصير، وسيكشف «الآخرون» أنهم لم يفهموا الدرس إلا متأخّرًا جدًّا؛ وأن رهاناتهم الرثة لم تعد تفي بمتطلبات واقع اليوم، فإنني لم أكن أرجم بالغيب، أو أنجّم بألعاب الحواة؛ حينما قلت في مقال سابق، ناعيًا على إدارة «البيت الأبيض» الحالية بقيادة «جو بايدن» خطأ تعاملها الإستراتيجي مع المملكة، وعدم فهمها للواقع الجديد.

إن «عالم اليوم تغيّر كثيرًا، والتحالفات بين الدول تقوم على المصالح المشتركة؛ لا على الوصاية وفرض الأوامر، وأيّ خطأ في الحسابات، وتجاوز «الخطوط الحمراء»، يعني - باختصار شديد - فتح النوافذ نحو شراكات جديدة، وتحالفات أكثر ديناميكية، وأفضل ثمارًا، وأوفر حظًّا في موازين التقدير والاحترام المتبادل، وما أكثر الدول المتقدمة التي تنتظر من المملكة مجرد الإشارة لتوسّع من تحالفها، وتمضي بشراكاتها إلى آفاق بعيدة ورحبة، فالمملكة باتت رقمًا صعبًا في العالم؛ بفضل الله، ثم بقيادتها الراشدة ورؤيتها المستشرفة لـ2030 وما بعده، ويكفي قيادتها لـ«مجموعة العشرين»، إبان رئاسة دورتها، بكل حنكة واقتدار رغم تحديات الجائحة، ففي ذلك النجاح ما يكفي إشارة ليفهم «الجميع» أن الواقع تغيّر، وأن التعامل مع المملكة وقيادتها من الواجب أن يتسم بالاحترام، وأن يعرف للمملكة حقّها ومستحقها، بعيدًا عن لغة التطاول وفرض الأوامر»..

وها هو الواقع يتشكّل سريعًا بشراكة جديدة، تشمل المملكة والخليج والعالم العربي، مع الصين، القوّة الأكثر تأثيرًا، والأوفر احترامًا للعلاقات، والأحرص على حفظ الأعراف والمواثيق، تقودها المملكة، وتمضي بسفينة العالم بأمان في عباب من الأحداث المتلاطمة، ولا يعني ذلك بأي حال من الأحوال اصطناع عداوات مع الأقطاب الأخرى، بقدر ما يعني أن هذا هو النهج الذي يتوجب عليهم أن يلتزموه متى ما أرادوا المحافظة على العلاقات، وتسخيرها للمصالح المشتركة ورفاهية الشعوب.