-A +A
محمد الساعد
وتوغل عبدالعزيز في التاريخ حتى كاد أن يملكه.. لعل هذا ملخص لعبقرية الملك عبدالعزيز التي ابتدرها لوحده ووضعته ضمن صناع التاريخ الكبار، لم يكن يدر بخلد الشاب الصغير وهو ينقل خطواته بين الرمال الذهبية ضارباً بعصاه في صحراء الكويت يمنةً ويسرة، أن أرضه البعيدة عن طرف عينه، ستنفجر ذات يوم على يديه نفطاً وماء ومكانة سياسية ودينية، دولة مؤثرة استمرت لأكثر من مئة عام ولا تزال.

ولد عبدالعزيز في منزل والده العام 1292هـ، قريباً من رأس القرن الهجري الجديد، سنوات قليلة ويجد نفسه مرتحلاً من بلاده إلى الأحساء، ثم البحرين، ثم الكويت، تاركاً ملكاً تليداً ووطناً عزيزاً، لكنه صحب معه ألم الرحيل وفقد الوطن، لقد شكل ذلك شخصيته الاستثنائية التي جاءت من وسط التجارب المرة لتؤسس ملحمة الدولة السعودية الثالثة، لم تكن ولادة الدولة واستمرارها لليوم تحصيل حاصل، ولا نتائج تفاهمات دولية، ولا خريطة قسمها الانتداب، بل نتيجة كفاح طويل خاضه الملك عبدالعزيز وأبناؤه الملوك الكرام من بعده، الدولة التي خاضت أقسى المعارك بالدهاء البدوي والدماء الزكية والصبر الطويل فشكلها وشكل ملامحها.


كان أسلوب الملك عبدالعزيز في إدارة شؤون بلاده ألا يبادر أحداً بالعداء، ومع أن كثيراً من خصومه نظروا له باحترام، إلا أنهم كانوا يخشون هذا الشاب الشجاع الجسور، فهو ابن أئمة استطاعوا العودة مرتين لحكم بلادهم، في دولة يعود تاريخها لأكثر من 300 عام.

لقد كان لاستعادته نجداً ثم القصيم والأحساء أثره الاستراتيجي، فقد رتبت أوراق المنطقة كلها، وأرسل المؤسس إشاراته الصارمة إلى خصومه، بأن استعادة الدولة الثالثة قادمة لا محالة، وأن أي تهور ضده سيقابله ليس الرد فقط، وإنما التمدد نحو مناطق نفوذهم، لتنضم إلى الدولة الجديدة الأقاليم الأخرى تباعاً «الحجاز وعسير وشمال البلاد».

استطاع الملك البدوي القادم من عمق الصحراء أن يسير بين حبال إمبراطوريات متصارعة؛ الإنجليز - الفرنسيون - الأمريكان - العثمانيون، لديها مقدرات عسكرية ضخمة دون أن يخسر، وحول الاختلاف معها إلى مكاسب ستثمر في ما بعد عن وحدة بلاده وشعبه، وحدة لم يحلم بها أحد في الجزيرة العربية، لقد استخدم الملك كل أدواته ومواهبه ووظف التكتيك السياسي وتحييد الخطر العسكري وعدم الانجرار نحو التحالفات.

السلطان عبدالعزيز

شهدت مرحلة التأسيس الآلاف من التفاصيل والمئات من المعارك، طريق طويل وجهد لا يمكن أن يدرك، بلاد مترامية الأطراف، وقبائل وأقاليم مختلفة، لقد كان خروج دولة مركزية في الجزيرة العربية أمراً حتمياً وقدرياً، فلم يعد المكون السكاني يحتمل البقاء من دون سلطة مركزية رشيدة جامعة وعادلة، قادرة على البناء والتنمية وفرض الأمن والأمان المسلوب من حياتهم نتيجة التشرذم وصراعات القبائل والأقاليم، فالجزيرة أهملت ولم تتلق طوال تاريخها أي اهتمام أو تنمية أو تعليم.

بدأت الدولة السعودية الثالثة فعلياً مع فجر الخامس من شوال 1319هـ /‏ 15 يناير 1902م، إثر دخول الملك عبدالعزيز بن عبدالرحمن الفيصل آل سعود إلى بلدته الرياض فاتحاً لها في طريقه لتوحيد بلاده الذي استغرق ثلاثة عقود، سنوات قليلة حتى توحدت أقاليم نجد تحت حكم المؤسس، وفي صيف العام 1339هـ /‏ 1921م، عقد مؤتمر في الرياض، حضره العلماء والوجهاء والأعيان، من أهالي نجد، تمنوا على حاكم نجد، الأمير عبدالعزيز بن عبدالرحمن بن فيصل آل سعود، أن يتخذ ومن يخلفه، لقب «سلطان»، ليصبح اسمه من بعد ذلك سلطان نجد.

من سلطنة نجد إلى مملكة

كان الملك عبدالعزيز سلطاناً لنجد، ثم سلطاناً على نجد وملكاً على الحجاز، ثم أصبح ملكاً لدولتين «نجد» و«الحجاز»، بعد استعادته الحجاز وضمها إلى سلطانه، وهو أمر ليس بالغريب لا في تلك المرحلة ولا اليوم، فملوك بريطانيا - على سبيل المثال - متوجون على أربع ممالك هي إنجلترا، وويلز، وأسكتلندا وإيرلندا الشمالية، لكن الرغبة الشعبية الجارفة بتوحيد البلاد تحت راية واحدة والانصهار في بلد واحد وشعب واحد، انتقلت من الطائف حيث ولدت إلى كل المدن والقرى والنواحي والهجر، ليستجيب لها الملك الذي وجد في الوحدة بين المملكتين وإنشاء كيان متوحد هو المطلب وهو العودة لأصل الحكم عندما كانت جميعها تحت حكم الدولة السعودية، وبعد اكتمال التوحيد أصبح الملك عبدالعزيز أول ملك للدولة بشكلها الحديث تحت اسم المملكة العربية السعودية في جمادى الأولى 1351هـ الموافق 23 سبتمبر 1932م.

الظروف السياسية والتاريخية

لقد كانت الظروف الجيوسياسية مهيأة بالفعل لتأسيس الدولة السعودية الثالثة لأسباب داخلية بحتة لا يعرفها إلا السعوديون:

أولاً: عودة الجزيرة العربية للفوضى والاقتتال وانفراط عقد الأمن الذي استظل به السعوديون تحت الدولتين السعوديتين الأولى والثانية.

ثانياً: توق أبناء الأقاليم السعودية الجارف إلى دولتهم التي انهارت في دورتيها الأولى والثانية بسبب الحروب العابرة والتآمر والصراعات، دولة توحدهم وتعمل لصالحهم وتنقلهم من حالة التيه والحاجة والجوع وفقر التنمية إلى دولة متوحدة وحديثة.

ثالثاً: ظهور صراعات وتنافس في أقاليم مختلفة داخل الجزيرة العربية استدعى البعض للاستقواء بعناصر أجنبية.

رابعاً: محاولة استقطاع جزء من الأراضي المقدسة - المدينة المنورة - لصالح الدولة العثمانية التي كانت تعاني هي بنفسها من صراعات وتدخلات أجنبية، وكان يعني هذا أنه ولأول مرة في التاريخ الإسلامي ستصبح الأماكن المقدسة متشظية ومجزأة، ما يشكل خطراً جسيماً على بيضة الإسلام وممارسة شعائره المرتبطة ببعضها بعضاً، وسيؤدي حتماً إلى انقسام إسلامي حاد بين من يملك منبر الرسول ومن يسيطر على منبر الحرم المكي الشريف، فاستلزم ذلك توحيدهما تحت راية الدولة السعودية من جديد.

أما العوامل الخارجية فقد تمثلت في التالي:

أولاً: كان الصراع بين القوى الكبرى حينها - بريطانيا، ألمانيا، فرنسا، الولايات المتحدة الأمريكية، روسيا - مريراً، لفرض إرادة الدول المتنافسة على بعضها بعضاً، وهو ما أنتج حربين عالميتين، لكنه أتاح فرصة لمن وظفها لصالح مشروعه الوحدوي، وكان ذلك الملك عبدالعزيز الذي استفاد منها للانتهاء من فترة التأسيس التي استغرقت حوالى ثلاثة عقود.

ثانياً: كان المتصارعون منشغلين عن الجزيرة العربية تماماً، ولم تمثل أهمية لهم، بل إن السعودية الجديدة بقيادة المؤسس - وتلمساً لواجبها الدولي - اهتمت بأمن الممرات المائية في البحر الأحمر خلال فترة الحرب، كما اتخذ الملك عبدالعزيز قراراً بالحياد الذكي، وتبنى أيضاً مرونة سياسية ومساهمات أمنية وإنسانية، مما ساعد بلاده في الحصول على مكانتها المستحقة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية.

النشوء والتكوين

إن التحول من الحكم العشائري العفوي ليس بالأمر الهين في تاريخ الأمم والشعوب التي اعتادت أن تعيش بلا نظام ولا قوانين تتحكم فيها، ويصبح من الصعب إقناعها، خاصة أن شعوب الجزيرة العربية التي انضوت تحت لواء المملكة السعودية، لم تحظ طوال 5000 سنة إلا بومضات من الاستقرار على أيدي الدول التي قدمت نموذجاً للحكم الراشد كانت منها الدولة الإسلامية في المدينة المنورة التي استمرت أربعة عقود، ثم عادت الجزيرة العربية لتغط في سبات الإهمال لأكثر من ألف عام حتى العام 1727 تاريخ تأسيس الدولة السعودية الأولى ثم الثانية ثم الثالثة، التي حققت حلم الدولة المستقرة الرشيدة المنتظرة.

السياسة قبل شجاعة الشجعان

استخدم الملك عبدالعزيز السياسة والتفاوض والدهاء في علاقاته مع الغير، ولم يلجأ إلى الصدام إلا بعد أن يستنفد كل الحلول الممكنة، ولعل معاهدة العقير، وترسيم حدود بلاده مع الأردن والعراق خير دليل على ذلك.

فقبل سنوات من إعلان بريطانيا انسحابها من منطقة الشرق الأوسط، واستقلال العراق والأردن، طلبت بريطانيا في رسالة عاجلة من الملك عبدالعزيز - رحمه الله - السماح لها بنقل قواتها من مستعمرتها شرق الأردن إلى مستعمرتها في العراق.

الملك رد بالتالي:

إلى حكومة بريطانيا العظمى..

ليس لدينا مانع من نقل قواتكم بشرط الدخول من أراضينا في النقطة الحدودية الفلانية، والخروج من أراضينا عبر النقطة الحدودية الفلانية.

مرت السنوات وقررت بريطانيا رسم حدود العراق والأردن مع المملكة العربية السعودية، فقال لهم الملك عبدالعزيز لقد رسمنا حدودنا معكم منذ زمن طويل، لقد أرسلت لكم جواب السماح بنقل قواتكم عبر أراضينا وفيه النقاط الحدودية التي تعبرون من خلالها ووافقتم حينها ولم تعترضوا، وبذلك رُسِمتْ حدود المملكة.

معاهدة العقير.. أول اعتراف دولي بالدولة الجديدة

ضمنت معاهدة العقير التي أبرمها الملك عبدالعزيز مع الإمبراطورية البريطانية لأول مرة اعتراف قوة عظمى تسيطر على معظم سواحل الخليج ولها نفوذها في العالم بحكمه وملكيته لنجد والقصيم والأحساء، لقد حددت تلك المعاهدة بالغة الأهمية ملامح الدولة الناشئة وهي في طريقها للتوحد فيما بعد تحت اسم المملكة العربية السعودية.

لقد وضع الملك عبدالعزيز لبنات دولته، وعقد اتفاقاً هو أقرب ما يكون إلى معاهدة بين دولتين كاملتي السيادة، لقد كان الملك عبدالعزيز سياسياً حصيفاً جنّب بلاده أي صدام مع الدول العظمى وحتى الدول المجاورة في الإقليم ونجح في ذلك أيما نجاح، كانت براعة الملك عبدالعزيز تتضمن السير في حقل الألغام الدولي دون أن تُخدش بلاده.

السعودية على الساحة الدولية

لم تكن السعودية عبئاً على أحد لا دولة ولا محوراً عندما ظهرت على الخارطة الدولية إثر إعلان سلطنة نجد، ثم مملكتي نجد والحجاز، ثم المملكة العربية السعودية، كانت تسير بنفس سرعة النظام الدولي الجديد الذي تأسس تحت مسمى عصبة الأمم وكانت الرياض جزءاً منه، انخرطت في مؤسساته وتعاونت معه وتعاملت مع دوله بمبدأ ثابت لا يتغير؛ «لا نتدخل في شؤون الغير ولا نسمح لأحد بالتدخل في شؤوننا».

الاعتراف بالدولة السعودية تتابع، من السوفييت إلى البريطانيين إلى الأمريكيين والفرنسيين، ومع أن السعودية الناشئة في تلك المرحلة المبكرة من تاريخها كانت فقيرة مالياً ومتأخرة اقتصادياً وتعد من الأقل نمواً وتعليماً بين شعوب الإقليم فضلاً عن العالم، لكنها لم تسترخِ أو تقبل التعايش مع ظروفها، بل شاركت في الكثير من المؤتمرات والاجتماعات الدولية، وكان ممثلوها يجوبون عواصم العالم من موسكو التي زارها الأمير فيصل إلى لندن وروما وباريس إلى واشنطن، كان السعوديون يرسمون بدقة موقعهم على الخارطة الدولية.

الظروف الأمنية في المنطقة

واجهت السعودية الناشئة ظروفاً أمنية حادة في الإقليم، فالدولة العثمانية تفككت ما أنتج عدة دول عربية أضحت تحت الاستعمار البريطاني والفرنسي الذي قَدِم إلى هذا الشرق بجيوشه ورجاله وأدواته، في العراق وسورية وفلسطين واليمن وليبيا وتونس والجزائر، إلا أن السعودية بملكها العروبي أدركت أنها في قلب كل هذا الصراع، يدفعها واجبها لأن تكون حاضنة وداعمة للشعوب العربية التواقة للحرية والاستقلال، وبرغم الظروف إلا أن السعوديين لم يبخلوا بمال ولا جيش ولا جهد دبلوماسي من أجل إخوتهم العرب.

السعودية.. أول دولة يلتقي بها المنتصرون في الحرب العالمية الثانية

يعد لقاء الرئيس الأمريكي فرانكلين روزفلت، ورئيس الوزراء البريطاني ونستون تشرشل في العام 1945م، أول لقاء للزعيمين مع زعيم دولي، بعد انتصار دول التحالف في الحرب العالمية الثانية، ولم يكن الاجتماع مع الملك عبدالعزيز إلا تأكيداً على المكانة المتنامية لزعيم عربي مسلم، استطاع بكفاحه وحنكته ودهائه أن يؤسس دولته ويحقق لها في سنوات قصيرة دورها المستحق، لقد أضحت السعودية في أعقاب اللقاءين دولة مركزية في العالم الجديد الذي نشأ في أعقاب الحرب العالمية الثانية.

السعودية المؤتمنة على طاقة العالم

كان ظهور البترول منعطفاً اقتصادياً وتنموياً وسياسياً كبيراً في البلاد، وكان للملك عبدالعزيز بحنكته وقدرته على استشراف المستقبل دوره، واستطاعت الرياض خلال عمر إنتاجها للنفط أن تكون دولة أمينة على إمدادات الطاقة موفرة للعالم معظم احتياجاته، ما ساعد العالم في استمرار دورته الاقتصادية دون تعثر.

لكن للنفط في السعودية قصة أخرى توثقها المحاضر الرسمية بين المسؤولين السعوديين والبريطانيين، تؤكد مرة أخرى الحكمة والدهاء السعودي: طلب الملك عبدالعزيز - رحمه الله - من الحكومة البريطانية قرضاً بما يقارب نصف مليون جنيه إسترليني لتمويل استكشاف النفط الذي ظهر في دول مجاورة (البحرين، الكويت، العراق، إيران)، ما كان يبشر باحتمال وجوده في الأراضي السعودية، لكن الإنجليز رفضوا تقديم المساعدة المالية، وقال كبير المفاوضين البريطانيين - السير لانسلوت أوليفانت: إن الوقت الراهن «لا يشجع أبداً على القيام بأي مغامرات مالية» (حسب وصفه).

الملك عبدالعزيز توجه من فوره نحو الولايات المتحدة الأمريكية ووقع في العام 1933 اتفاقية للتنقيب عن البترول بين بلاده وشركة ستاندرد أويل أوف كاليفورنيا، في العام 1935 تم حفر أول بئر اختبارية في الظهران، وعلى الرغم من تعثر الاكتشاف إلا أنه وبعد خمس سنوات من الحفر، بدأت بئر الدمام رقم 7 في إخراج كنوزها منتجة 1500 برميل في اليوم.

وفي الطريق لاستحواذ السعوديين على نفطهم، وفي 31 يناير من عام 1944، تم تغيير اسم الشركة المشغلة لآبار البترول إلى شركة الزيت العربية الأمريكية، التي أصبحت تعرف اختصاراً باسم شركة أرامكو السعودية، وخلال عهد الملك فيصل وفي العام 1973 كانت الرياض تسعى لامتلاك الشركة بالكامل، إثر خلافات طويلة على الحصص، لتستحوذ على 25% من شركة أرامكو الأمريكية، وفي عام 1974 ارتفعت حصة الحكومة السعودية إلى 60%، استمر نمو الملكية السعودية في عهدي الملك خالد والملك فهد، واستطاعت الحكومة الحصول على حصة 100% من أرامكو، ومن ثم السيطرة الكاملة على الشركة.

في عهد الملك سلمان وولي عهده الأمير محمد طُرح لأول مرة جزء من شركة أرامكو في سوق المال السعودي ليكتتب فيها السعوديون والشركات الدولية المستثمرة في السوق المحلية، إنه طريق طويل مليء بالنجاحات استغرقته أرامكو في التحول من شركة أمريكية خالصة إلى سعودية كاملة، كان لا بد أن يثمر أخيراً عن شركة مساهمة، قادرة على العبور نحو أسواق المال العالمية، بما يحمله ذلك من معايير الجودة، والرقابة والمحاسبة والشفافية.

السعودية والصعود السياسي

منذ تأسيس السعودية الثالثة واكتمال التوحيد وهي تلفت الانتباه وتدفع الجميع للحاق بها. لقد حققت زعامة عربية وإسلامية في غضون سنوات قليلة، فعلى الصعيد الإسلامي عُقد في مكة المكرمة أول مؤتمر إسلامي معروف في مكة المكرمة في عهد الملك عبدالعزيز 1344هـ /‏ 1926م، حضرت إليه وفود الدول الإسلامية وجمعيات أهلية، بدأ المؤتمر أعماله بحضور الملك عبدالعزيز جلسته الافتتاحية، كان ذلك المؤتمر تأسيساً للزعامة السعودية للعالم الإسلامي ومساهماتها التالية باحتضان العديد من المؤسسات التي خدمت وساهمت في تنمية الدول والشعوب الإسلامية.

التحديات من التأسيس حتى الخريف العربي

مع أن التأسيس لوحده كان تحدياً كبيراً إلا أن المملكة الناشئة وتحت قيادة ملوكها خاضت معارك أخرى بوحدة وطنية وصلابة وشجاعة شكلت ملحمة سعودية، وعلى أسوارها سقطت كل المؤامرات والتحديات.

أولاً: معركة السبلة التي حدثت عام 1929 بين قوات الملك عبدالعزيز وبعض المتمردين الذين خرجوا عن الأوامر وقاموا بمهاجمة الحدود العراقية والكويتية، الهجوم غير المسؤول كان بعيداً عن توجهات القيادة المركزية في الرياض، تلك المعركة كانت حاسمة في رسم المسار المدني والتحديثي للدولة الناشئة والمستمر لليوم.

ثاني معاركها التي تصدت لها ونجحت فيها بامتياز: كانت مع القومية المتطرفة التي تبنت الخصومة مع الدول الملكية، بل ووضعت الرياض عدواً لها دون مبرر، ولترسيخ مشروعها في المنطقة دعمت الانقلابات وألّبت الشارع، الرياض لم تكتفِ بهزيمتهم، بل وساعدت الممالك الأخرى في تصديها للتدخل السافر في شؤونها.

المعركة الثالثة: جاءت ضد التمدد الشيوعي والماركسي في الجزيرة العربية، فقد وجدت الرياض نفسها وجهاً لوجه مع الدب الروسي، وأمام تحد كبير بتسلل الشيوعية إلى خواصرها الجنوبية في ظفار العمانية واليمن الجنوبي، كانت السلطنة العمانية تخوض معارك طاحنة ضد المتمردين اليساريين الذين أعلنوا ثورتهم عام 1965 والمتمركزين على حدود السعودية، في الوقت الذي كان اليمن الجنوبي يخضع للماركسيين الذين استخدمتهم موسكو جسراً للاقتراب من البحار الدافئة، لقد أدارت السعودية المعركة بحكمة ودهاء سياسي وعسكري أخرج الماركسية تماماً من حدودها.

رابعاً: لم تكد السعودية تخرج من مواجهتها مع الماركسية في جزيرتها العربية حتى وجدت نفسها 1978 مع عدو جديد تمثل في ما يسمى بالثورة الخمينية التي تبنت تصدير الثورة والتمدد العسكري شرقاً عبر الحرب مع العراق، في هذه المعركة واجهت الرياض تحدياً أمنياً واقتصادياً إلا أنها انتصرت بفضل صبرها ونفسها الطويل.

خامساً: جاء عام 90 حاملاً معه انهيار المعسكر الشرقي، وآخر معاقل الدول القومية وكانت هنا العراق التي اغتالت نفسها بنفسها عندما أقدمت على احتلال الكويت، حينها وجدت الرياض أنها أمام خيار لا ثاني له «إما أن تكون أو لا تكون»، فبقاء الاحتلال واستيلاؤه عنوة على مقدرات وأراضي دولة أخرى يعني تمدده وتغوله في المنطقة كلها، لتقود الرياض تحالفاً دولياً خرجت به منتصرة.

سادساً: بعد عشر سنوات تقريباً وفي عام 2001 حاولت كل من القاعدة الذراع العسكرية للإخوان المسلمين الإيقاع بالسعودية وتوريطها في صدام عسكري مع أمريكا في أحداث الحادي عشر من سبتمبر، لقد كان المخطط كبيراً ومحكماً، لكنّ السعوديين وكعادتهم استوعبوا الصدمة وأداروا معركتهم وتحولوا في نهايتها إلى فائزين.

سابعاً: لم تمضِ سوى سنتين وتحديداً 2003 حتى عاد المهزومون في «11 سبتمبر» إلى الحرب مع المملكة ولكن هذه المرة من داخلها حين بدأت القاعدة القيام بأعمال إرهابية في المدن السعودية، سنتان من الحرب استطاعت الرياض القضاء على القاعدة تماماً.

ثامناً: بعد أقل من عقد وتحديداً 2010 وجد السعوديون أنفسهم أمام طوفان ما يسمى بالربيع العربي، حرب من نوع جديد أسلحتها الهاتف المحمول وحسابات المنصات الاجتماعية، هدّت دولاً عربية عدة وحولتها إلى بقايا أوطان في سورية والعراق واليمن وليبيا، السؤال المدهش كيف استطاعت الرياض حرف تلك الموجات العالية عنها، وفي الوقت نفسه حمت الرياض الجدار العربي من الانهيار ودافعت عن فضائها العربي.

تاسع التحديات السعودية: كان إخراج الفرس من اليمن التي حاولوا التسلل إليها في غفلة الخريف العربي، وكما هو العهد بالسعوديين، جاؤوا في الوقت المناسب لإنقاذ الجزيرة العربية وطرد الإيرانيين ليس من اليمن فقط، بل ومن حوض البحر الأحمر وإعادته إلى بحيرة عربية خالصة.

عاشراً: المعركة السعودية الأخيرة مع جائحة كورونا وهي وإن كانت معركة كونية إلا أن السعودية الرشيقة والجسورة استطاعت الوقوف بكل قوة واتخاذ قرارات شجاعة مكنتها من تأخير اجتياح الفايروس لمنظومتها الصحية والأمنية والاجتماعية، وعلى الرغم من أن الطريق طويل إلا أن معالم فوز السعوديين واضحة وإن كان في بدايته.

ملحمة تنموية كبرى.. من السكة الحديد إلى نيوم

كان قدر الملك عبدالعزيز عظيماً بالرغم من كل التحديات التي واجهها بصدر مفتوح، ولكن بعقل منفتح مستنير أيضاً، فأنشأ المؤسسات القادرة على تحويل حلم الدولة إلى حقيقة واقعة، إذ تم الإعلان تباعاً عن إنشاء مجلس الوكلاء، ومجلس الشورى، وإدارة للمقاطعات، ورئاسة القضاء والمحاكم الشرعية، ودائرة للخارجية ثم وزارة لها، وكذلك كيانات للصحة والمالية والداخلية والمعارف، ومؤسسة النقد العربي السعودي والشروع في اكتشاف النفط وإنشاء مؤسسة خاصة له، وكذلك بناء السكة الحديدية. لقد كانت تلك خطة لاستكمال كيان الدولة وتحويلها بالفعل من شكلها العفوي إلى شكلها الحديث والعصري، وفي سبيل الاستفادة من كل الطاقات والمعارف لم يتوانَ الملك عن استقطاب الخبرات التي ارتحلت من كل أصقاع الدنيا إلى قصره العامر في الرياض لتشكل حوله خلية من المستشارين المؤتمنين.

بعد وفاة الملك عبدالعزيز تمت مبايعة الأمير سعود ملكاً على البلاد سنة 1373هـ (1953م)، وفي عهد الملك سعود استكمل بناء العديد من المؤسسات التي وضعت لبناتها الأولى في عهد المؤسس، كما دفع بالإصلاحات الداخلية التي كان من أهمها إنشاء مجلس الوزراء بشكله المعروف، ودعم المشاريع التعليمية وتحويل مديرية المعارف إلى وزارة للمعارف لتحقيق نهضة معرفية كبرى في بلاد تطغى عليها الأمية، فأُنشئت جامعة الملك سعود، كما أُنشئت وزارة الإعلام سنة 1381هـ وبُدئ تأسيس التلفزيون في 1383هـ. وفي سعيه لبناء جيش حديث دُشنت أول كلية حربية، إضافة إلى استكمال خدمة الحرمين الشريفين بالعمل على توسعة المسجد النبوي الذي اعتمد مشروعه في عهد الملك عبدالعزيز، ثم توسعة المسجد الحرام.

بعد أن تولى الملك فيصل الحكم في العام 1384هـ عمل على ترسيخ التنمية بشتى جوانبها، فأمر بضم جامعة الملك عبدالعزيز الأهلية إلى الدولة وتحويل الكليات والمعاهد العلمية إلى جامعة أصبحت فيما بعد جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، كما عمل على تحويل كلية البترول إلى جامعة البترول والمعادن. وفي عهده تطور نظام الابتعاث الذي وضع أسسه الملك عبدالعزيز، كما استطاع الملك فيصل أن يعظم الدور المستحق لبلاده في العالمين العربي والإسلامي ما جعل السعودية قبلة في العمل التضامني، كما وضع الأسس لتنمية مستدامة من خلال إطلاق الخطط الخمسية التي ساهمت بشكل كبير في تنمية بلاده اقتصادياً واجتماعياً.

في العام 1395هـ /‏ 1975 تولى الملك خالد الحكم، فشهدت المملكة في عهده تطوراً مهماً في البناء والتنمية، واستكمل بمساندة من أخيه ولي العهد الأمير فهد خطط التنمية وإطلاق الصناديق الصناعية والعقارية وغيرها من أذرع مالية ضخت مليارات الريالات في جسد الاقتصاد السعودي واختصرت مسيرة تطوره بشكل ملحوظ، كما تميز عهده بالنمو الاقتصادي المتسارع، وشهد التعليم نهضة كبرى وتوسعاً ملحوظاً، حيث تم افتتاح جامعة الملك فيصل بالدمام وجامعة أم القرى بمكة المكرمة، وفي مسيرته السياسية الخارجية بذل الملك خالد جهوداً لتأسيس مجلس التعاون الخليجي ليكون مؤسسة تتصدى للمخاطر الجسيمة التي تشكلت بسبب الغزو السوفيتي لأفغانستان، وخروج ما يسمى الثورة الإيرانية التي أعقبتها الحرب العراقية الإيرانية، كما اهتم بعدد من القضايا العربية والإسلامية، من أبرزها القضية الفلسطينية، ودافع كثيراً عن حياة الفلسطينيين التي انتهكت في مذبحتي صبرا وشاتيلا وقاد جهوداً كبيرة لإنقاذهم والتخفيف من معاناتهم، توفي الملك خالد في الطائف سنة 1402هـ.

تولى الملك فهد الحكم، وفي عهده استمرت خطط التنمية وحققت بلاده نتائج غير مسبوقة في الاقتصاد والرياضة وعلوم الفضاء، قاد السعودية إلى أندية السياسة الكبرى في العالم، وأضحت السعودية واحدة من صناع السياسة الدولية، وساهم كثيراً في تطوير دور بلاده السياسي وخاصة في دفاعه عن حق الأفغان في التحرر من الشيوعية، وكذلك القضية الفلسطينية التي أطلق مشروعاً للسلام باسمه وقدم لمنظمة التحرير مساهمات سياسية عديدة كانت جسرها للاعتراف الدولي، كما ساندت المملكة حق العراق في تحرير أراضيه من الاحتلال الإيراني، وفي احتواء الحرب الأهلية اللبنانية، أما دوره في خدمة القضايا الإسلامية فقد كان جوهرياً وغير مسبوق، فقد اتخذ لقب خادم الحرمين الشريفين بدلاً من جلالة الملك، تأكيداً لدور ملوك البلاد في خدمة الحرمين الشريفين واعتزازهم بها، وفي عهده برزت العديد من الإنجازات على الصعيد الإسلامي، أهمها مشروع خادم الحرمين الشريفين لعمارة الحرمين الشريفين وتوسعتهما، كي يستوعب المسجد الحرام ملايين المصلين، توفي سنة 1426هـ.

في 26 جمادى الآخرة 1426هـ الموافق 1 أغسطس 2005م تولى الملك عبدالله الحكم واحتفظ بلقب خادم الحرمين الشريفين، وعيّن الأمير سلطان ولياً للعهد حتى وفاته، ثم عُيّن الأمير نايف حتى وفاته، ثم عُيّن الأمير سلمان ولياً للعهد.

وفي عهد الملك عبدالله تم إنشاء جامعة الملك عبدالله للعلوم والتقنية، إضافة إلى برنامج خادم الحرمين الشريفين للابتعاث الخارجي، والأمر بإنشاء عدد من المدن الاقتصادية والرياضية واستكمال توسعة الحرمين الشريفين، استمر حكم الملك عبدالله إلى وفاته في 3 ربيع الآخر 1436هـ الموافق 23 يناير 2015.

تولى الملك سلمان بن عبدالعزيز آل سعود مقاليد الحكم في البلاد العام 2015، وشهد عهده إعادة بناء السعودية في شكلها الحديث سياسياً واجتماعياً واقتصادياً وتحديث الأنظمة وحوكمتها، وإلغاء ما تقادم منها، حيث واجهت البلاد بسبب الأزمات الدولية والوضع الأمني في الإقليم تحديات جمة، ولمواجهة تلك الأخطار تمت إعادة هيكلة الاقتصاد السعودي جذرياً وتحويله من اقتصاد ريعي يعتمد على سلعة واحدة هي البترول إلى اقتصاد منفتح منتج قادر على الصمود أمام الأزمات، وللحد من الأخطار والسيولة الأمنية التي حدثت في المنطقة تم إطلاق عاصفة الحزم لإجهاض المشاريع الإيرانية للتوسع في الجزيرة العربية، ثم إطلاق برنامج التحول الوطني، ورؤية 2030 على يدي عضده وولي العهد الأمير محمد بن سلمان، لمواجهة الظروف الاقتصادية الصعبة، ومنها انخفاض سعر البترول حتى إعادة تعويمه والنهوض به، كذلك بناء العديد من المشاريع العملاقة في نيوم والقدية وذا لاين، وجزر البحر الأحمر ومشاريع وسط جدة والطائف والسودة والباحة، إضافة إلى مواجهة جائحة كورونا والإغلاق الاقتصادي الذي صحبها في العالم أجمع وأثر على المملكة، وبُذلت الجهود الكبرى التي خففت من تلك الآثار.

اليوم تعيش السعودية نتاج ملحمة كبرى استغرقت أكثر من مئة عام من الكفاح حولت الصحراء القاحلة إلى مدن مكتظة بالحياة والنمو، وغيرت شكل شعب بقي مجبراً على عزلته داخل الصحارى والقفار، لكنه في الوقت نفسه صمد أمام تلك الظروف الموغلة في القسوة، وكان تواقاً لوحدة ودولة وقيادة تجمعه وتضعه في مراتب التاريخ والأمم المتحضرة، حتى جاءت الدولة السعودية وتحققت المعجزة.