-A +A
علي بن محمد الرباعي
تغيّرت اليوم صيغة فيتامين (راء) فغدت الرشوة مجازية، تداعب ميول الموظف، وتستثير عاطفته، وتوجهاته بأسلوب البلاغة والخطابة، ولربما تنطلي على الموظف التقليدي حيلة بعض المراجعين ممن يبدأ عند الدخول لإدارة ما بالاستغفار بصوت جهوري، ثم يتعوّذ من إبليس، ويُخرج السواك، ويتلو ما تيسّر من القرآن، ويردف بحديث، ويُخرج تولة العنبر؛ ليدهن كفوف الموظفين والمُراجعين، فيكسب نقاط أوّل جولة، نِزال مع خصمه على حلبة النظام.

في إحدى الإدارات لم ينتبه المراجع المُنفعل على خصمه الغائب، أني أُصغي إليه، كوني منشغلاً بتعبئة نموذج، وطال تكراره، عبارة (كان عمر بن الخطاب، وعلي بن أبي طالب) رغم أنه لم ينجح في إكمال قصة الفاروق والإمام علي؛ لأن الموظف المُهذّب منصرف كلياً لقراءة المعاملة، ويحاول استيعاب مضمون شكواه وتفهيمه بنص النظام، ولكنّ المُراجع المتسلّح بكل المرجعيات البهلوانية لا يُريد أن يفهم، ويتوقع أنه بترديد الحوقلة سيستميل الموظف لصفه، ويسدد لخصمه لكمة خطافية، قبل الضربة القاضية.


استأذنته بالتداخل، وقلتُ: تسمح لي؟ فقال: تفضّل، فقلتُ: لو أن الفاروق وعلي، رضي الله عنهما، يعيشان معنا هذا الوقت، هل سيتعاملان بالنظام، أم بالمواعظ، والأدبيات الانشائية؟ وأضفتُ: هل يقبل مني الموظّف أن أتقدم له بمعروض نصفه الأعلى قصيدة المتنبي (سيعلم الجمعُ ممن ضمّ مجلسنا، بأنني خير من تسعى به قدمُ، أنا الذي نظر الأعمى إلى أدبي، وأسمعت كلماتي من به صممُ، كم تطلبون لنا عيباً فيُعجزكم، ويكره الله ما تأتون والكرمُ). فقال: وش درّاني؟ انشده انحاه قدامك؟!.

قلتُ: كُل أدبيات العالَم لا تغيّر، ولا تؤثّر، في مواد ولوائح الأنظمة، وإن تعاطف معك أي موظف، بسبب معرفتك بفلان، أو قرابتك لعِلّان فلن يغلّب مشاعره على واجب الوظيفة، وأخلاقيات المهنة وسيتعامل بحذر طالما رايات ( نزاهة) ترفرف على كل باب.

كان للاستجداء والاستعطاف بالخطاب الديني زمنه، ولا ريب أن الكافرين بالدولة، يعشقون خرق النظام، وطعنه في مقتل، بالمحاباة والمجاملة، لذي جاه، أو مال، أو أيديولوجيا، وينسون أو يتناسون أن خشية الله بكل مكانتها الاعتبارية، لا اعتبار لها في الأنظمة، فالمُراجع لمؤسسات الدولة إما صاحب حق مكفول أو مُدوّر باطل مرذول... ولسنا في القرن الهجري الأول، لنجعل من سيرة الصحابة، وتاريخهم متكئاً، ننطلق منه لمحاججة الخصوم، والمطالبة بالحقوق، فإعلاء شأن النظام، والقبول بمواده ولوائحه جزء من أدبيات المواطنة، ودليل احترام الدولة ونظامها (في المنشط والمكره).

كان (أبو يعن الله) صاحب شيمة، وامتلك حراثة في أواخر التسعينات الهجرية، فبلغه عزم بعض المتنفذين على تطبيق مخطط منح في أرض إنسان مطنوخ، يقيم في منطقة بعيدة عن منطقتنا، فما كان منه إلا أن سرح بحراثته، ليحُرّ المساحة كاملة؛ كي يثبت أنها أرض زراعية، محاولاً حماية أملاك صديقه من التعدي عليها، فتم إيقاف الحراثة، وإيداعه السجن، فجاء ابن صاحب الأرض يزوره، وسلّم عليه من وراء شبك التوقيف، ثم قال: يا عم محمد ليش تورّط نفسك، ما تدري أن المادة ( 99 ) من نظام الأراضي تنص على (...)، فضرب الشبك الفاصل بينهما بقبضته، وقال: اقلب وجهك أنت والمادة حقتك، وتركه وانصرف للعنبر غاضباً، وبعدما أُطلق سراحه علّق على زيارة ابن صاحب الأرض قائلاً: توقعت الهِلامة؛ جاء يكفلني ويطلّعني، من السجن، وأثره جاي يعلمني بالمادة 99، وكانت نكتة الموسم، ومواسم لاحقة؛ لأن العم محمد ملّحها وبهّرها؛ بعبارات خارجة عن النص!

بالطبع لا يزال بعضنا ضعيفاً في الثقافة القانونية والإدارية، فيلجأ لتذكير المسؤول بالله، وترقيق قلبه، بمقولات، وأدعية لاستعطاف مشاعره، واستمالته بمدهون العبارة وليّن الخطاب، طمعاً في محاباته بمخالفة الأنظمة، وبعضنا يتعيّن في وظيفة، ويخرج منها دون معرفة بحقوقه وواجباته، ويفتح البعض حسابات بنكية ولا يدري ما له وما عليه، واليوم هناك قائمة طويلة من تشريعات تحدد وتضبط علاقتنا بالمؤسسات، لم تبقِ للأهواء ولا للأمزجة محلاً ولا موضعاً.

لا عذر اليوم بجهل المُعلَن من القوانين، والأنظمة، والتشريعات، لنتمكن من أداء الحقوق، ونيل الواجبات، وأداء المسؤوليات، واتخاذ القرارات، في زمن ووطن لا مجال في منظوماته لمشاعر ولا اجتهادات.

ومن لوازم المرحلة التي يعيشها العالم أن يكون لدى كل مواطن حد أدنى من الثقافة القانونية، ومعرفة التشريعات داخل وطنه، وخارجه، لحماية نفسه من المحاسبة، أو الغرامات، والعقوبات، ولتفادي السلوكيات الخاطئة المخالفة للقانون، وصيانةً للمال والعِرض، من الاستغلال، والابتزاز، وسوء المعاملة، فالجهل بأنظمة بلد ما، أو تعليماته، لا يعفي من المُساءلة، ولا يحمي من طائلة المسؤولية.

ونتطلع ونحن نجدد ونحدث المقررات الدراسية، تطعيم أبنائنا وبناتنا بجرعات من الثقافة القانونية، بدءاً بالمراحل الابتدائية، وبما يتناسب ويتواءم مع عمر الطالب والطالبة، وقدراته واستيعابه، وبصورة تدريجية، تتوالى، إلى نهاية أعوام الجامعة.

ولا ريب أن نشر ثقافة الوعي بمواد النظام تتبناها الوزارات المعنيّة، ومنها وزارة الداخلية، ووزارة التعليم، والإعلام، والعدل، ومن خلال التواصل مع نظام النيابة لدينا، وما سمعته من بعض المتهمين يتم تعريف المتهم بحقوقه، قبل الشروع في أي إجراء، ومنها إعلام أهله بمكانه، وإفهامه بأن النظام يمنحه حق طلب محامٍ للدفاع عنه والترافع معه، وغيرها.

لا شك أنه قد يتعرض بعض المواطنين والمواطنات للظلم، أو التعسف، لا بسبب الأنظمة، وإنما بسبب الأميّة القانونية، وضعف أمانة بعض الموظفين، فيبدأ التظلم، والالتماس، في سبيل تخفيف، الالتزامات، المترتبة على المخالفة، أو التخلص منها.

تضع دولتنا اليوم مصفوفات قانونية، لكل الإدارات، من نظام المرور، إلى حقوق الطفل، وذوي الدخل المحدود، والحقوق الصحية والطبية وحق العلاج وصرف الدواء، وحوكمت عقود التوظيف، واعتمدت شروط العقد، وعدد ساعات العمل والعطل والأجور، والإجازة، والانقطاع، وأسباب الفصل.

وتحرص دولتنا على حفظ حقوق الجميع، ولكن من لا يعرف حقه لا يمكنه أن يطالب به، ومن عرف حقوق الآخرين (دولة ومؤسسات وأفراداً) فلن يتطاول عليها، وإعلان الأنظمة، ودعم الثقافة القانونية العامة يحد من النزاعات، ويخفف الضغط على المحاكم والشُرط، ويغلّب جانب التصالح والتسامح، ويحد من أهواء (المشكلجية) المُغرمين بإشغال الناس والدوائر بالشكاوى والدعاوى الفاضية.

أتمنى أن تتضمن دعاوانا وشكاوانا وحديثنا مع موظف أو مسؤول ما نصّت عليه المادة رقم كذا من نظام الجهة كذا، والتعميم رقم كذا، وما تضمنته اللائحة التفسيرية للنظام، دون حاجة لاستدعاء أدبيات الاستعطاف، واستحضار هيبة عمر، وبلاغة علي (وهما على رأسي) إلا أننا في زمن أتمتة، وحكومة إلكترونية.