-A +A
طلال صالح بنان
من الصعب القول إن هناك ممارسة ديمقراطية في العالم العربي. هناك مؤسسات سياسية تقوم على شكليات الممارسة الديمقراطية، فيما يخص طقوسها، لا على ممارسة ديمقراطية حقيقية تستند إلى مشاركة سياسية تعددية على أسس سياسية وقيم ليبرالية، في إطار وحدة وطنية ترمز لها مؤسسات ونخب الدولة القومية الحديثة.

في بعض الدول العربية، التي تزعم أخذها بالخيار الديمقراطي، نجد هناك: دستوراً.. ومؤسسات سياسية.. ورموزاً سياسية منتخبة.. ومنظمات لمجتمع مدني.. وأحزاباً سياسية.. ومشاركة سياسية.. وصحافة جدل ونقاش.. وآلية للفصل بين السلطات.. ورقابة ومحاسبة مؤسساتية وشعبية على أداء الحكومة، وغيرها من مظاهر الممارسة الديمقراطية في بعدها الشكلي، إلا أنها أبعد ما تكون عن الديمقراطية الحقيقية، ببعديها الحركي والقِيَمي.


في العالم العربي، مشرقه بالذات، هناك ما يمكن أن يطلق عليه «موضة ديمقراطية». هي «تقليعة سياسية مستوردة» وليست ثقافة سياسية محلية، تعكس سيادة شعبية أصيلة. قد يكون الخيار الديمقراطي، في شكله الطائفي الهش، وراء إقامة دول عربية حديثة. لبنان كان نتاجاً لتجزئة تعسفية استعمارية للمجتمعات العربية، شرق المتوسط. لبنان اُقتطع من سوريا الكبرى تعسفاً بواسطة الانتداب الفرنسي، كما اُقتطعت مناطق لصالح تركيا في الشمال والغرب.

كان يُنظر للبنان عند تأسيس الجامعة العربية، على أنه نواة لنشر الديمقراطية في العالم العربي. بعد أكثر من سبعة عقود من قيام الجمهورية اللبنانية، لم تكتمل في لبنان لا صفات الدولة ولا مواصفات الجمهورية.. دعك من الزعم أن لبنان ساهم في نشر الديمقراطية في المنطقة.

بعد الفرنسيين والإنجليز جاء الأمريكيون، مبشرين بـ«ديمقراطية العم سام». بالغزو فرض الأمريكيون رؤياهم الديمقراطية في العراق، تحت شعار نشر الديمقراطية من أجل التخلص من الأنظمة الرجعية القمعية، بدءاً بنظام صدام حسين البعثي. قام الأمريكيون بتقسيم «كعكة» الحكم في العراق على أسس طائفية (دينية ومذهبية وعرقية)، معتمدين على إحصاءات عددية، لا تراعي الفوارق بين فئات الطائفة الواحدة، دعك من مراعاةِ مكونات الطيف الحقيقي للشعب العراقي وتعدديته. النتيجة فشل النموذج الأمريكي للديمقراطية في العراق، وهو أبعد من أن يمثل نموذجاً يُحتذى للأخذ به في المنطقة.

ما حدث في العراق، مؤخراً، ما هو إلا نتيجة لنظام المحاصصة الطائفية، التي فرضها الأمريكيون تعسفاً على العراق، وفي نيتهم الحقيقية ليس ازدهار وتنمية واستقرار العراق، بل عدم استقرار المنطقة ككل، خدمة لمصالحهم، وفي مقدمتها ضمان الأمن لإسرائيل.

لقد فشل نظامُ المحاصصةِ الطائفيِ في العراق، على مستوى الطائفة نفسه. الصراع الأخير على السلطة في العراق كان بين الطوائف الشيعية، وكان وراءه صراع مرجعياتٍ شيعيةٍ عابرةٍ للحدودِ، شرقاً. فجأة نرى السيد مقتدى الصدر، الذي تسبب في التصعيد الأخير، يعلن انسحابه من الحياة السياسية، ممتثلاً لأوامر جاءته من مرجعيته خارج الحدود (الإمام كاظم الحائري)، الذي أعلن في سابقة تاريخية ومذهبية، اعتزاله عن المرجعية وخضوعه لمرجعية خامنئي في قم وتقليده له، وخامنئي هذا هو الداعم الرئيس للإطار التنسيقي (الشيعي أيضاً)، العدو اللدود للتيار الصدري.

في لحظة انهارت مؤسسات الدولة «الديمقراطية» في العراق، وكادت حرب أهلية أن تنشب، مما يثبت في النهاية أن «ديمقراطيةَ» المحاصصة الطائفية، ليست من الديمقراطية الحقيقية في شيء. بدلاً من أن تكون رمزاً لفاعلية وكفاءة واستقرار مؤسسات الدولة توكيداً لسيادة الشعب العراقي، أضحت ديمقراطية المحاصصة الطائفية رمزاً لتكريس ديكتاتورية الطائفة.. واستبداد وصراع المرجعيات الشيعية.. وتبعية العراق للمرجعيات المذهبية الأجنبية (قم)، خارج مقار المرجعيات الشيعية التقليدية الأصيلة داخل العراق (النجف). بالتالي: تفشي الفساد، في مؤسسات الدولة وبين النخب السياسية.. وتغَوّلت المليشيات الطائفية بأيدلوجيتها العنصرية الرجعية المتزمتة، على حساب احتكار الدولة العراقية للقوة الجبرية القاهرة، رمز السيادة الأصيل للدولة القومية الحديثة.

الديمقراطية الحقيقية لا تقوم على نظام محاصصة طائفية هش وغير مستقر، ينتج عنه نظام أوتوقراطي مستبد.. فاسد.. عميل لقوى خارجية، يستند إلى قيم ثيوقراطية رجعية عنصرية متزمتة، لا تمثل فئات الشعب المختلفة، في إطار تعددية سياسية حقيقية، تتجاوز الفروق الطائفية والدينية والمذهبية والعرقية، في المجتمع.