-A +A
هيلة المشوح
منذ بدايات الإنترنت في السعودية وحتى اليوم ليس ثمة تغيير يذكر في الأيديولوجيا الصحوية داخل العقول التي تورطت بفكرها، بل ربما تكون قد تفاقمت اليوم تبعاً لاتساع فضاءات التقنية من وسائل التواصل والتطبيقات المتاحة للجميع، ومن يعتقد أن حدّة خطاب الصحوة الإخوانية قد تراجع أو تخفف فليدخل إحدى مساحات تويتر التي -من المفترض- أنها مساحات فكرية تستقطب الرأي، والرأي الآخر للنقد والتشريح والتفنيد والحوار، ولكن الحاصل أنه -في الغالب منها- باتت مساحات حرب كلامية يعلو فيها صوت النشاز، ويتسيدها التحريض والفحش والإساءات وأدنى مستويات الحوار!

دخل الإنترنت في المملكة في منتصف التسعينات الميلادية وأصبح استخدامه رسمياً للعامة في نهايتها، أي أن بداية الألفية كانت هي البداية الفعلية لما سمي بـ(المنتديات) وأهمها بحسب الأقدمية منتديات الساحات العربية التي كانت آنذاك ميداناً لصولات وجولات السجالات الفكرية بين قطبين أو تيارين رئيسيين هما التيار الإسلاموي (الصحوي) وهم في الغالب يتبعون جماعة الإخوان وينهلون من أدبياتهم ومؤلفاتهم، وتيار تنويري أطلق عليه (الليبرالي)، وكل من «جايل» تلك المرحلة يعلم أن هذين التيارين هما قطبا السجال الأبرز في ذلك الوقت، أما مستوى الطرح فهو أدنى من أن يسمى حواراً، فلغة الحوار التي يستخدمها التيار الإسلاموي المتشدد (الصحوي) آنذاك كانت تميل للتحريض والإيذاء ونقل المعارك من العالم الافتراضي إلى أرض الواقع، فكم من مفكر ومثقف وأكاديمي وإعلامي أوذي في عمله ومجتمعه وأسرته، وكم من صاحب رأي حرّضوا عليه عائلته وطالبوهم بالتبرؤ منه، وكم من مسلم كفّروه وأخرجوه من الملة وكم من بريء تآمروا عليه... إلخ.


قصص كثيرة بعضها طوته السنوات وقبرت في مقابر المنتديات، وبعضها تم توثيقه كما حدث مع المفكر الدكتور حمزة بن قبلان المزيني أستاذ اللسانيات والبروفيسور في جامعة الملك سعود في كتابه (واستقرت بها النوى) الذي يرصد التحولات الفكرية والاجتماعية في بنية المجتمع السعودي كسيرة ذاتية، بل وسيرة مجتمعية فاحصة «انصح الجميع بالعودة إليه كمرجع صادق لحقبة طويلة من التحولات والصراعات الفكرية».

ما يحدث اليوم على مساحات تويتر من تداعيات فكرية وبشاعات لفظية يشابه إلى حد بعيد جيل الساحات والمنتديات، فمن حيث الحوارات الهادفة فتكاد تكون معدومة إلا من رحم ربي، ومن حيث التأليب والشتائم والتكفير فلا يزال الوضع كما هو بل وأسوأ مما كان، فالتيار الإسلاموي ذاته يتصدر المساحات ويتمظهر بشكل حضاري أكثر اتساقاً مع المرحلة ظاهره الوطنية وباطنه الكراهية والعنصرية والإقصاء ورفض الآخر ونبذ كل قيم التعايش والسلام، وقد سمعت حوارات مقززة تقشعر لها الأبدان من قذف وفحش وإسفاف وعبارات خادشة لا تليق بمجتمع متحضر في دولة تتبنى رؤية طموحة وتحمل على عاتقها إنجازات حضارية يتحدث بها العالم من أدناه إلى أقصاه، كما وتسعى للارتقاء بالفرد ثقافياً واجتماعياً لتضاهي به شعوب العالم، فأصبح البعض يفتح مساحات لشتم البعض الآخر، ثم يفتح الآخر مساحات للدفاع عن نفسه وتفنيد ما لحقه من أذى وإساءات، وضاع الرأي والرأي الآخر وأصبح الحوار مجرد (خوار)!

أخيراً.. ما سبق لا يعني أنه ليس هناك مساحات جميلة تناقش أموراً ذات أهمية وفائدة، ولكنها للأسف قليلة لا تروي شغف جيل متعطش للطرح المتزن والحوار الهادئ والارتقاء الفكري عن أوحال التشدد والتشتت والانقسامات والأيديولوجيات الغابرة.