-A +A
عبداللطيف الضويحي
الكل مسكونٌ ومهووسٌ بالبحث عن بداية أو إعادة البداية، حتى الذين بدؤوا، بل حتى الذين اجتازوا منتصف الطريق وربما شارفوا على خط النهاية هم في حالة بحث عن بداية أو إعادة بداية. ولماذا كل هذا التعلق والشغف بالبدايات؟ لماذا تبدو البداية مغرية كل هذا الإغراء، وما المغري في الأمر إذا كانت التجربة ناجحة؟ هل هو حب المغامرة؟ أم هي أهدافنا المتغيرة؟ أم أن هناك بداية نموذجية ومثالية، في ذهن كل منا مواصفاته الخاصة لها؟

تبدو أغلب البدايات إن لم يكن كلها بدايات أملتها ظروف أصحابها، لم يكن للمدرسة دور مهم فيها. الكل يقول ابدأ ولا أحد يقول متى تبدأ ولا يتوفر مع هذه الثقافة كتالوج «كيف تبدأ»، وهذا في تصوري ما يفسر مشاعر وتفكير أحد أقاربنا الذي التقيتُه أثناء إجازة هذا العيد، وهو يصف لي مشاعره الجارفة تجاه أحفاده الأربعة: حفيدان لابنِه، وحفيد وحفيدة لابنتِه. يقول بأنه الآن يمارس الأبوة الحقيقية التي لم يشعر بها ولم يتمكن من إعطائها لأبنائه ويمارسها على وجهها الصحيح مع أبنائه! هو يتابع أحفاده بكل صغيرة وكبيرة ويهتم بما يأكلون وما يشربون وأين يذهبون ومتى ينامون ويستيقظون، يوصلهم بنفسه للمدرسة ويرعى شؤونهم الصحية، فهل هذا الاهتمام والرعاية والحنان الذي يستمتع به الأحفاد تعويضا من جَدهم لهم عما افتقده آباؤهم وأمهاتهم من آبائهم؟


هل كان صاحبنا أصغر سنا حينما كان أباً من أن يدرك ويشعر بمشاعر الأبوة؟ وهل يمكن أن ينسحب ذلك على جيله؟ وهل يمكن أن يفسر هذا ما تفجر من مشاعر الأبوة المتأخرة مع الأحفاد بهذا الفيض من الاهتمام والرعاية؟ هل يمكن أن نصنف مشاعر الرجل أو المرأة تجاه أحفادهم بأنها مشاعر الجد والجدة، أم هي مشاعر أبوة وأمومة تأخرت عن موعدها نتيجة لتزاحم الأولويات وقتئذ والبدايات الخاطئة؟

إلى أي مدى يمكن تعميم هذه الظاهرة على جيل بعينه أم أجيال بأكملها؟ هل يمكن أن تنسحب هذه الظاهرة على كل بداياتنا؟ وهل يسري ذلك على كل تجاربنا التي نخوضها أو خضناها قبل موعدها؟ ماذا عن تجاربنا الدراسية؟ هل أخطأنا في دخولنا للجامعات والكليات والتخصصات الخطأ نتيجة للبدايات الخاطئة وعدم نضج أهدافنا أو نتيجة لعدم وعينا أو لانشغالنا بأولويات أخرى حينها؟ كم منا الآن من يعضون أصابع الندم لدخولهم مجالات ليست لهم ولا تناسبهم ولم يعرفوا ذلك إلا بعد فوات الأوان وربما «بعد خراب مالطا»؟ كم هي الزواجات التي انتهت بالفشل الذريع وذهب كل من الزوج والزوجة يلوم كل منهما الآخر ويحمله مسؤولية الفشل، بينما الحقيقة أن ما يلام هو البداية غير الصحيحة وغير الملائمة! كم من المشروعات الاستثمارية التي نجحت نجاحا باهرا وظن الناس بأن أصحاب تلك الاستثمارات أذكياء أو أثرياء أو أصحاب نفوذ وعلاقات، بينما السر هو في البداية الصحيحة.

في الحقيقة لا أحد علمنا في المدرسة متى نبدأ، ولا أحد في البيت يمكنه أن يقطع بنجاح أو فشل توقيت كل البدايات يقينا. فكل الدراسات الاجتماعية والاقتصادية والنفسية لا تكفي عندما تتقاطع بداياتنا مع الظروف الاستثنائية القريبة المباشرة والبعيدة غير المباشرة التي لا تنتهي. وعصرنا الحالي مليء بالظروف الاستثنائية القريبة والبعيدة والتي أصبح تأثيرها أكبر وأكثر من الموضوع المراد تحقيقه وما يتطلبه من قرارات دقيقة.

مؤكد لا أحد يريد أن يهدر وقته وماله وإمكاناته في تكرار البدايات وإعادتها، لكن المؤكد أننا بحاجة ماسة لأن نكرر الكثير من بداياتنا وإعادة محاولاتنا، لأن التقييم الذي لا يشمل دراسة البداية والإحاطة بتوقيت البداية، لا يكفي للحكم بالفشل أو النجاح على كثير من قراراتنا. فلا تتوقف عند التجربة وتنسى توقيت بدايتها إذا كان ناجحا أو فاشلا في تقييم نجاحك أو فشلك. والحياة مليئة بضحايا البدايات الخاطئة. من أجل هذا نجد كثيرين ممن هم حولنا وفي دائرة معرفتنا مهووسين ومسكونين بإعادة البداية أو تكرار البداية بكل شيء، نتيجة لحجم التغيرات وسرعتها وتنوعها، أو لحجم ما فات عليهم من فرص لم تكن تبدو كذلك في ما مضى، أو لأنهم فشلوا معها حين كان الوقت غير ملائم وغير مناسب لتلك البدايات.