-A +A
طلال صالح بنان
من أهم تداعيات حرب روسيا على أوكرانيا احتمال عودة ألمانيا كدولة عظمى تنافس على مكانة الهيمنة الكونية. هذه الأيام، تُعيد ذاكرة التاريخ إلى بداية القرن العشرين، الذي شهد أفول العهد البريطاني، بعد حربين عالميتين عظميين، تحول على إثرهما النظام الدولي لزعامة دولة عظمى جديدة (الولايات المتحدة الأمريكية).

بعد أكثر من سبعة عقود ونصف على هزيمة ألمانيا في الحرب العالمية الثانية، التي تسببت في تقسيم ألمانيا لما يقرب من نصف قرن، وإعادة توحيدها، لتصبح زعيمة أوروبا الحقيقية، بقوتها الاقتصادية الناعمة، كثالث اقتصادات العالم، يُثار التساؤل حول وضع ألمانيا، في النظام الدولي القادم، التي كانت حرب روسيا على أوكرانيا أبرز إرهاصاته العنيفة.


ماذا لو أضافت ألمانيا لقوتها الاقتصادية الجبارة قوة استراتيجية رادعة. ماذا لو تطور هاجسها الأمني ليختلط بنزعة قومية، تذكرها بتاريخها التليد، وتوقظ فيها «شيفونية» العرق المتفوق. مجرد تفكير ألمانيا، في قضية الأمن، لا بد أن يتطور، في وقتٍ قصير، إلى التبصر في إمكانية التوسع، بل وخوض غمار المنافسة على مكانة الهيمنة الكونية.

الجيش الألماني بأفرعه المختلفة يزيد قليلًا عن ستين ألف جندي، وهو أقل بما فرضته معاهدة فرساي، كأقسى شروط استسلامها في الحرب العظمى (مائة ألف جندي). هذا التقليص في عدد الجيش الألماني يرجع إلى قناعة وطنية أكثر منه فرضاً من قوىً أجنبية، بموجب شروط استسلام مذلة. لقد فضلت الدول المنتصرة تقسيم ألمانيا بينها على تكرار خطأ معاهدة فرساي بتحديد أعداد الجيش الألماني. لذا ترتب على القوى المحتلة لألمانيا مسؤولية الدفاع عنها، أو بالأحرى قيام كل دولة محتلة بالدفاع عن الجزء الذي تحتله من ألمانيا، وهذا الوضع أشد قسوة على ألمانيا (الدولة والأمة) من تحديد أعداد جيشها.

بالتبعية: ألمانيا ظلت، لأكثر من سبعين عاماً، إما مقسمة أو مهيضة الجناح. ألمانيا، وقد كسرت الحرب في أوكرانيا الحاجز النفسي ليكون لها جيش وطني قوي، ليس أمامها، في المرحلة القادمة، إلا أن تعمل على زيادة ميزانية الدفاع، وزيادة قدرات جيشها الوطني، بإمكانات استراتيجية رادعة.

ألمانيا تمتلك البنى التحتية العلمية والتكنولوجية والاقتصادية والحس القومي الوقّاد، ما يمكّنها من بناء قوة رادعة استراتيجية، في لا وقت، تقريباً. ألمانيا بها صناعة عسكرية متقدمة، تتراوح بين صناعة خوذات الجنود، إلى بناء أكثر الغواصات والطائرات الحربية تقدماً، وما بين ذلك من أنظمة تسليحية متقدمة، من الدبابات والمدافع وأنظمة الدفاع الجوي والصناعات البحرية العسكرية. هذه الصناعات الحربية المتقدمة أهّلت ألمانيا لتكون الرابعة من بين الدول المصدرة للأسلحة في العالم.

كما أن ألمانيا لديها صناعة نووية (سلمية) متقدمة، تمكّنها من بناء قوة ردع نووية استراتيجية، تستغني بها عن المظلة النووية الأمريكية، لتتجاوز تغطية احتياجاتها الدفاعية إلى تغطية احتياجات القارة الأوروبية أيضاً.

لن يعيق تحقيق طموحات ألمانيا الاستراتيجية، في المرحلة القادمة، غير توفر الإرادة السياسية، مدعومة بقناعة شعبية عارمة. عندها: هل تتوقف ألمانيا القوية استراتيجياً عند طموحات تحقيق احتياجاتها الأمنية المشروعة، أم يتطور الأمر إلى ما هو أبعد من ذلك. ألمانيا، خلال أقل من عشر سنوات ربما تفكر في استعادة الأراضي التي اقتطعت من إقليمها.. وتجاوز ذلك إلى أراضي الجوار، التي بها أغلبية ألمانية.. وستصبح محاطة بدول تستميت في استرضائها، وهي تغلبها شهوة الانتقام منها.

وضع يمر به النظام الدولي مع بداية العقد الرابع شبيه بذلك الذي ساد ثلاثينات القرن الماضي وقاد لاندلاع الحرب العالمية الثانية.