-A +A
محمد مفتي
من أسس التحليل السليم تشخيص المشكلات على نحو دقيق، والتركيز على المسببات الرئيسية -لا الفرعية- لأي مشكلة، فعالم التاريخ كعالم الكيمياء عليه أن يعيد ربط الفروع بالأصل، ولا يمكن بحال من الأحوال التوصل لعلاج ناجع لأي مشكلة دون تحديد طبيعتها وأبعادها بدقة كافية، وفي كثير من الأحيان يؤدي عدم تحديد السبب الرئيسي للمشكلة إلى حدوث نتائج كارثية لا قدر الله، وفي كثير من الأحيان يقوم المتسببون في المشكلة بتشخيصها بشكل خاطئ عمداً لإبعاد الشبهات عنهم وتوجيهها لأطراف أخرى بخلاف الحقيقة.

تزداد أهمية تشخيص المشكلات ولاسيما أوقات الحروب أو خلال الأزمات الاقتصادية، ومن المسلم به أن ترك المشكلات تتفاقم دون إيجاد حلول جذرية لها يسهم في استفحالها وتأثيرها السلبي على مجالات أخرى، مما يؤدي إلى تراكم المشكلات وإطالة فترة الأزمات، وهنا قد تتباعد الأسباب الرئيسية للمشكلة الأساسية ولا يتم الالتفات لها؛ بسبب ظهور مشكلات أخرى ثانوية أخذت فرصتها في الظهور والتجذر في المجتمع بسبب طول فترة الأزمة، وفي هذه الحال كثيراً ما تدخل هذه الدول في حالة اضطرابات طويلة الأمد، تؤدي في غالبية الأحيان إلى انهيار النظام برمته في نهاية الأمر.


لو نظرنا -على سبيل المثال- لدولة العراق، فسوف نجد أن السبب الرئيسي في جميع الأزمات التي تعاني منها حكومة وشعباً حتى وقتنا الحاضر هو النهج الذي انتهجه رئيسها الأسبق صدام حسين، الذي قام بالعديد من الأفعال الحمقاء الواحدة تلو الأخرى، كان من أشدها حرب الخليج الأولى ثم غزوه للدولة الشقيقة الكويت، غير أننا قد نجد بعض المحللين السياسيين يلقون باللائمة على التدخل الأمريكي في العراق عام 2003، وإلى انتشار الجماعات الإسلامية المتطرفة التي استغلت الفوضى العارمة التي سادت في تلك الفترة، وهذا صحيح إلى درجة كبيرة، غير أن الأسباب الأخيرة هي نتائج مباشرة وغير مباشرة لسياسات حمقاء متراكمة ارتكبها النظام العراقي الأسبق على مدار عقود.

للأسف الشديد يتهرب بعض المحللين من الاعتراف بالأسباب الرئيسية ويركزون على الأسباب الفرعية، فالمشكلات التي تراكمت في العراق والفوضى الأمنية التي عصفت به -ولاسيما بعد تغلغل النظام الإيراني في شرايين حياته الاقتصادية والاجتماعية- دفعت البعض إلى الشعور بالحنين لأيام نظام الديكتاتور السابق، متجاهلين أن كل ما يعاني منه العراق الآن هو نتاج تصرفاته، وقد يحاول البعض التشكيك في صحة هذا التحليل متسائلاً عن سبب استمرار الفوضى رغم ذهاب نظام الديكتاتور السابق إلى غير رجعة، غير أنه بالقليل من التعمق يتضح لنا أن السبب الرئيسي يكمن فيما ورّثه النظام السابق للأجيال التالية، من مشكلات سياسية بينه وبين جيرانه من دول الخليج، ومن إهدار لموارده الاقتصادية التي شارفت على الصفر، وغيرها الكثير من المشكلات المتشابهة التي تجذرت على نحو يصعب معه تحديد سببها الرئيسي دون تحليل معمق.

ما ينطبق على العراق ينطبق على ليبيا أيضاً، فسوء إدارة الدولة والتصرفات الحمقاء للرئيس الليبي الأسبق القذافي دفعت نظامه إلى الانهيار، مما سمح بتدخل القوى الدولية وتغلغل التنظيمات الإرهابية في أراضيه، وبالتالي فإن كل ما تعاني منه ليبيا حالياً سببه النظام السابق ولو بشكل غير مباشر، والجدير بالذكر أن الحماقات السياسية تفتح الباب على مصراعيه لتدخل القوى الدولية في شؤون الدول بحجة الحفاظ على النظام والأمن الدوليين، وعندما تغلب الفوضى الشارع فإن الفرصة تكون مواتية تماماً لتغلغل التنظيمات الإرهابية فيه، والتي كثيراً ما ترتكب جرائمَ أشد من جرائم الطاغية نفسه الذي تمت إزاحته.

لعل أهم أسباب الاستقرار السياسي لدول الخليج العربي هو اعتدال سياستها الداخلية والخارجية، وهذه السياسة أغلقت الباب تماماً في وجه القوى الأجنبية التي تتحين الفرص لفرض هيمنتها السياسية في المنطقة، فعقب تحرير الكويت من الغزو العراقي طلبت المملكة العربية السعودية من جميع قوات التحالف بلا استثناء مغادرة أراضيها فور انتهاء مهمتها، فهي لم ولن تقبل يوماً بتدخل خارجي في إدارة شؤونها الداخلية والخارجية، حتى لا تصبح أراضيها مرتعاً للإرهاب كما يحدث الآن في بعض الأقطار العربية بكل أسف.

أتمنى من أي محلل سياسي منصف توصيف الأزمات التي عصفت بالمنطقة وإرجاعها لأسبابها الحقيقية، وما يحدث في اليمن الآن هو تدخل إيران بشكل سافر في شؤون دولة أخرى على نحو أفقدها سيادتها، ولذلك فإن ما يعانيه الشعب اليمني الآن من أزمات اقتصادية واجتماعية وصحية سببه الرئيسي هو تدخل دولة لا يهمها إلا فرض نفوذها في المنطقة في شؤونها الداخلية، ولذلك فإن حل المشكلة يكمن في تحديد المتسبب الحقيقي في الكارثة، بدلاً من المراوغة والتهرب وتجنب الإجابة الدقيقة، لأن هذا يعنى تقديم منطق بلا منطق -إن صح التعبير- ولهذا لا يمكن القبول بهذا المنطق الأعرج أبداً.