-A +A
بشرى فيصل السباعي
هناك نكتة عن جحا أنه في يوم أزعجه الناس بتجمهرهم حوله ولكي يصرفهم عنه زعم لهم أن هناك وليمة عرس في حي قريب يمكنهم أن يأكلوا فيها حتى يشبعوا، وبالفعل سارعوا بالانصراف باتجاه الحي الذي أشار إليه، لكنه ما لبث أن لحق بهم فسأله صاحبه لماذا يلحق بهم وهو قال له إنه سيصرفهم عنه بزعم أن هناك وليمة ليلحقوا بها وهو صرفهم بالفعل فلماذا يتبعهم؟ فرد جحا أنه «وما يدريه لربما كان زعمه صحيحا وكانت هناك وليمة عرس فتفوته إن لم يتبعهم». هذه النكتة باختصار تفسر أكبر نكسة ونكوص وانحراف فكري ثقافي بالعصر الحديث انحط بكامل البشرية وحرفهم عن طريق التطور باتجاه التفكير المنهجي العلمي المتفائل بالتقدم والتطور وآفاق المستقبل والذي كان يقدر ويجل جهود من يشارك في بناء الإمكانيات العلمية والتقنية الرائعة لعالم الحاضر والمستقبل وجعلهم ينكصون لعقلية جهالة ولا عقلانية عصور التخلف والعنصرية المعادية للعلم والتطور والتقدم والديمقراطية والتي تشكك في كل من يساهم بمسيرة التقدم والتطور وتجعله بمثابة متآمر مجرم ولو كان طبيبا يخاطر بحياته يوميا وذلك بنظرية مؤامرة مثل أنه جزء من المؤامرة العالمية لفبركة الزعم بوجود وباء كورونا الذي تعتبر نظريات المؤامرة أنه لا وجود له، والأخطر أنه أعاد الغرب إلى ما قبل الاستنارة التي حصلت له في أعقاب الحرب العالمية الثانية التي نتج عنها إقرار كل القوانين الحقوقية والإنسانية العالمية التي أدت لإزالة أنظمة الاستعمار والقوانين العنصرية ونشرت ثقافة الديمقراطية والسلم والمساواة، لكن كل هذا هدمته ثقافة نظريات المؤامرة الخرافية الخبيثة التي أدت لإصابة البشر بالبارانويا/ ‏جنون الارتياب ووسواس قهري يشكك بكل شيء وكل أحد ويرى كل شيء وكل أحد كعدو متآمر حتى الأطباء والعلماء وهم من الفئات التي كان لها رصيد حسن ظن واحترام يماثل الذي لرجال الدين لدورهم العظيم بنفع البشرية، وأدت لعودة مرعبة للتيارات العنصرية واليمينية وأوصلت دولا غربية وديمقراطية لحافة الحرب الأهلية مع مظاهرات واحتجاجات دامت لأشهر وسقط فيها قتلى ووصل الأمر لاقتحام الغوغاء للمباني الحكومية السيادية بأمريكا بإرادة إحداث انقلاب وهددوا سلامة أعضاء الكونجرس وسقط قتلى، وتسببت بعمليات إرهابية، ونظريات المؤامرة سبب استعصاء محاصرة وباء كورونا بسبب كثرة من صدقوا نظريات المؤامرة حوله ويرفضون التقيد بالإجراءات الوقائية، ولا أحد يتساءل أين بدأ كل هذا الجنون؟! بدأ هذا الجنون بستينات القرن الماضي من كاتب أمريكي ملحد ساخر اسمه Kerry Thornley -كيري ثورنلي، وصديقه العامل بمجلة «بلاي بوي» الإباحية «Robert Wilson» حيث فبركا ديانة ساخرة أسمياها «Discordianism» غايتها الاستهزاء بالقناعات اليقينية لدى الناس بكل المجالات بنشر التشكيك في كل شيء بفبركة نظريات مؤامرة مستهزئة بالعقل حول كل شيء وكانا يخططان لكشف أنهما قاما بمقلب كبير وضحكا على عقول الناس وأظهرا مدى غبائهم ولاعقلانيتهم وجهلهم وبالتالي بطلان كل مسلماتهم، ولذا كانا قد أطلقا عليه اسما جذابا بالنسبة لصحافة الإثارة وهو بذيء مستهزئ بمعنى «عملية تدمير العقل» لكنهما تفاجآ بأن الناس أخذوا على محمل الجد نظريات المؤامرة المجنونة التي فبركاها بجلسات تعاطي المخدرات والعربدة، وكانا ينشران بمجلة بلاي بوي رسائل بصيغة تسريبات لأسرار جماعة سرية تسيطر على العالم وبقية نظريات المؤامرة المألوفة حاليا وكلها مفبركة، ثم حصل لثورنلي ما حصل لجحا وبدأ يشك أن نظريات المؤامرة التي فبركها هي صحيحة بسبب أنه رأى الناس يصدقون فبركاته بخاصة عندما التقطها صناع مواد الترفيه وبنوا عليها روايات وأفلاما ومسلسلات أضفت طابع الجدية على نظريات المؤامرة الساخرة التي فبركها فلما رآهم يصدقونها بدأ هو يصدق تصديقهم لها فأصيب بالجنون، وللأسف جني نظريات المؤامرة الذي أطلقه عبر قمقم مجلة إباحية لم يمت بموته بل بموته مات الدليل على الأصل الفاضح لهذه الثقافة الهدامة العالمية التي تبنتها الشخصيات والتيارات اليمينية لاحقا كأداة سياسية خبيثة مفيدة للتلاعب بالغوغاء وحشد تأييدهم، وتبنتها روسيا كوسيلة لحرب باردة تهدم بها مسلمات الثقافة الغربية الديمقراطية المهيمنة على العالم وتزعزع الاستقرار الداخلي لدول الغرب كما أثبتت ذلك تحقيقات المخابرات والمباحث الأمريكية وجلسات استماع الكونجرس عن تلاعب وتهكير/‏قرصنة/ ‏اختراق السلطات الروسية للانتخابات الأمريكية والرأي العام فيها، ولذا دائما وأبدا لمعرفة حقيقة أي شيء يجب الرجوع للبحث بأصله وعدم الغرق بتراثه التراكمي والحاضر.