-A +A
وفاء الرشيد
عندما قال عراب السياسة الخارجية الأمريكي وزير خارجيتها الأسبق هنري كيسنجر منذ سنوات أن محور اللعبة الدولية قد انتقل إلى آسيا الوسطى، كان على صواب، وقد أدرك طبيعة التحولات الاستراتيجية العالمية الكبرى التي تتركز على صراع النفوذ الثلاثي ما بين الولايات المتحدة الأمريكية وروسيا والصين.

ومن هنا أهمية ما يجري اليوم في كازاخستان التي تشهد موجة غير مسبوقة من الاضطراب السياسي، اقتضت استنجاد السلطات المحلية بجارها الروسي الذي استقلت عنه البلاد قبل ثلاثين سنة.


ومن المعروف أن كازاخستان التي هي قلب أوروبا الوسطى بمساحتها الجغرافية الهائلة وثروتها النفطية والمعدنية الكبيرة، تضم أقلية روسية هامة تصل إلى ثلث السكان. ومن هنا أهمية كازاخستان بالنسبة لروسيا التي ترتبط معها باتفاق أمني في إطار «معاهدة الأمن الجماعي» التي هي الإطار الجيوسياسي للدور الروسي في المنطقة بعد انفصالها عن موسكو إثر تفكك الاتحاد السوفياتي عام 1991.

ومن المتوقع أن يكون الموضوع الكازاخستاني -بالإضافة إلى الأزمة الأوكرانية- في مقدمة أجندة الحوار السياسي المرتقب بين روسيا والولايات المتحدة في جنيف الأسبوع المقبل.

ولا شك أن الرهان الأساس بالنسبة للسياسة الروسية هو فرض منطق الشراكة الكاملة على الولايات المتحدة في المجال الأوروبي الآسيوي الواسع، الذي كانت واشنطن تسعى لاحتكاره من خلال مشروع توسيع المظلة الأطلسية. إلا أن الاستيلاء على إقليم القرم في سنة 2014 والسيطرة على حوض دونباس، خلقَا وضعاً جديداً لصالح روسيا التي تحاصر حالياً بجيشها أوكرانيا غير عابئة بالتهديد الغربي، وتسعى بوضوح إلى استعادة مواقعها في آسيا الوسطى ولو بآليات وصيغ جديدة.

لم يفتأ الرئيس الروسي بوتين يقول إن كازاخستان لم تكن دولة مستقلة قبل 1991، وإنما هي «هدية كريمة من الشعب الروسي»، بما يعزز من مخاوف وحذر السلطات الكازاخستانية التي تسعى إلى تنويع شراكاتها الدولية في اتجاه أوروبا والصين المجاورة التي تدعي انتماء كازاخستان تاريخيا لمجالها الإقليمي.

والواقع أن كامل منطقة آسيا الوسطى تعيش أزمة جيوسياسية عميقة منذ انفصالها عن الاتحاد السوفياتي قبل ثلاثين سنة. الأمر هنا يتعلق بدول مسلمة، ناطقة في أغلبها بالتركية (باستثناء طاجيكستان)، تحتل موقعاً استراتيجياً فريداً في الفضاء الواسع الممتد شرق البحر القزويني، بحيث تشمل جانباً من روسيا والصين وتنفتح على العالم الهندي الكثيف من خلال أفغانستان. ولقد تسبب الانسحاب الأمريكي الأخير من أفغانستان في حالة انكشاف استراتيجي خطير للمنطقة التي أصبحت ما بين كماشتي روسيا والصين.

وفي حين يظل الهدف الأساس لروسيا هو تأمين حدودها الآسيوية والحفاظ على مصالحها السابقة في الإقليم مع حماية المكون الروسي فيها، فإن المشروع الصيني يكمن في التحكم في آسيا الوسطى كجسر أساسي لمبادرة إحياء طريق الحرير الرابط بين آسيا وأوروبا. ولهذا الغرض بلورت الصين خطة طموحة للتمدد في منافذ التجارة الدولية الكبرى في المحيط الهندي والبحر المتوسط والبحر الأحمر من خلال مشاريع البنية التحتية في آسيا الوسطى من طرق برية وموانئ وسكك حديدية، مع إحياء الحواضر الزاهرة تاريخيا في الإقليم مثل سمرقند وبخارى.

أما التوجه الأمريكي فيكمن في محاصرة روسيا والصين معاً من حدودهما الرخوة التي تتداخل مع الأقاليم المسلمة في البلدين، من خلال توسيع الحلف الأطلسي إلى هذه المنطقة وربطها اقتصاديا وعسكريا بأوروبا التي هي جسرها إلى شرق وجنوب آسيا.

وهكذا تتضح خيوط اللعبة الاستراتيجية المعقدة في آسيا الوسطى.