-A +A
عبدالله بن بخيت
تعليقاً على المقالات التي كتبتها مؤخراً، يظهر من يقول لماذا تجترون الماضي. انتهت الصحوة (بإيجابياتها وسلبياتها)!. وبعضهم يتهمني بالإفلاس. ليس من الصعب أن نعرف أن الصحوة أوقعتنا في مأزق لا يمكن أن ننعتق منه دون تفتيش خطابها وإعادة العقل إلى العمل في أبكر وقت ممكن. أثناء الصحوة كنا في عراك مع الطافح من تجلياتها. سلطة المحتسبين وسلطة الهيئة وسلطة الانتهازيين وتعطيل المصالح الاقتصادية وإلغاء إنسانية المرأة والحض على الكراهية وتشويه سمعة الدين الإسلامي ودهورة التعليم إلى آخر مشاريع الصحوة البارزة. هذه التشوهات تمت إزالتها أو على الأقل إزالة كثير من العاملين عليها. ما الذي بقي إذاً لكي نستمر في بعث الصحوة والحديث عنها؟

الصحوة لم تكن حزبا دنيويا خالص الدنيوية، وليست حزبا مستوردا بالكامل، ولكنها حالة ملتبسة بالدين وبالتقاليد المحلية الموروثة، والعاملون عليها في غاية المحلية والريفية. يصعب على الباحث أن يميز بين ما جاء به الدين الحنيف وما استعارته الصحوة من مرجعياتها التراثية الحكواتية والشعبية المتوارثة. فالجن ورد ذكرهم في القرآن الكريم، ولكن الصحوة قامت باستدعاء التراث والثقافة الشعبية البدائية فخلقت عالما جنيا متكاملا وأنزلته كحقيقة في نفوس الناس: الجني يأكل ويشرب ويتزوج ويتزاوج مع البشر، ويدخل في الناس ويخرج منهم، وحددت مواقعهم وسكناهم ومذاهبهم ومللهم وقبائلهم وطيبهم ورديئهم إلخ. أما السحر فأصبح مادة علمية يدرسها خبراء متخصصون في وحدة السحر التابعة لهيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر حتى تأصل وصرنا نتعثر في صرارات السحر في منازلنا، في سياراتنا في ملابسنا الداخلية، وما زلنا ننتظر أن يباع في البقالات.


بعد استثناء دعاة الأجندات السياسية الذين تكفلت بهم أجهزة الدولة الأمنية يمكن أن نضع الدعاة في إطارين رئيسيين: دعاة عوام يحملون (دكتوراه دينية لا علاقة لها بالعقل العلمي)، ودعاة عوام الحارات من ذوي التعليم المتدني. يتميز دعاة الفئة الأولى عن الثانية بأن كانوا يخلطون السياسة بالدين وبالخرافة. يدعون للخلافة ويكرسون الطائفية ويدعون للحرص على أداء الصلاة في أوقاتها وفي نفس الوقت يروجون للجن الذين يأكلون رزاً ويغلقون الأبواب على بعد ستة متر. نصيب هؤلاء من الوعي بالسياسة لا يتعدى نصيب الرجل العامي. أما دعاة الحارات فكانوا يكرسون الخرافة دون خلط كبير مع السياسة ويقومون بأعمال مسرحية كتكسير آلات موسيقية وقصص ومسابقات طفولية مضحكة، تلا هاتين الطبقتين طبقة مشابهة لهما، ولكن بوظيفة مختلفة وعملها يجنح إلى الصمت. هي تلك الطبقة التي سمت نفسها الرقاة، ثم أضافوا صفة (الشرعي)، فأصبحوا يسمون الرقاة الشرعيين. هذه الطبقة ليس لها دور مباشر في نشر تحديات الصحوة، ولكنها تشكل واحدة من أهم مشاريع الصحوة التي لا تنسى، بل هي الغراس الغويط للصحوة في عقل ووجدان المجتمع، لعبت أكثر الأدوار خطورة. كانت تجوب في وجدان المجتمع الأمر الذي مكنها من التوسع والانتشار بصمت الأمراض المزمنة. وظيفة الراقي الشرعي، هي تحييد العقل وإضماره. ولكي ندرك الدور الذي يمثله هؤلاء تأمل فقط في كلمة (شرعي) التي أضافوها على اللقب، فبقدر ما تعني التزامهم بالعلاج بالقرآن تعني أيضا أن هناك رقاة يعالجون الناس بطرق غير شرعية أي بالسحر وبالجن، وهذا ما يرفضه الراقي الشرعي لأنه علاج غير شرعي وليس لأنه غير مفيد. فبإضافة كلمة شرعي أصلنا حقيقة العلاج بالسحر والاستعانة بالجن.

تخصص الرقاة الشرعيون في تديين كثير من الخرافات الشعبية والاستفادة منها في تحقيق الأرباح (فك السحر وإخراج الجن إبطال العين)، حيث قاموا بترقية مفهوم السحر من ثقافة شعبية إلى حقيقة دينية وصحية، فأصبح السحر مرضاً كالزكام أو السكر. كلما زاد عدد الدعاة الجانحين للخرافة ازداد عدد الرقاة حتى أصبحوا أكثر من الأطباء، وأصبح دخلهم المادي يفوق دخل الأطباء أيضا. بل صاروا يظهرون في المستشفيات، وكثير منهم فتح عيادات في استراحات تدر ملايين الريالات، والأكثر من ذلك استطاعت مكاسب هؤلاء المادية إجبار كثير من خريجي الطب النفسي للانضمام إلى كادرهم. يمكن القول إن أي فئة تتصدى للشيء تكون برهانا على وجود هذا الشيء. كلما تكاثر عدد الرقاة تضخم حضور الجن والسحر في ثقافة الناس. وجود هؤلاء أصل وجود الأسحار وببراعة ألصقوا وظيفتهم بالدين وخصوصا أساس الدين (القرآن الكريم)، عندما أطلقوا على أنفسهم رقاة شرعيين. صارت شرعيا، تعني أن هذا الرجل يعالج بالقرآن مما يوحي أنه خبير بالقرآن الكريم أكثر من أي مسلم آخر، رغم أن القرآن الكريم متوفر في مكاتبنا وسياراتنا وغرف نومنا ونجيد قراءته وفتحنا آلاف مدارس تحفيظ القرآن، بالإضافة إلى أن القرآن الكريم يدرس في مدارسنا من أولى ابتدائي حتى يتخرج الطالب من المرحلة الجامعية، بيد أن هذا الطالب الجامعي الذي درس القرآن طوال حياته الدراسية هو من يحضر لأمه الراقي الشرعي ويدفع أجره. لم يسأل هذا الطالب لمَ لا أقرأ على أمي بنفسي؟ بل لم يسأل نفسه لم لا تقرأ أمي على نفسها؟

ساهم هؤلاء بمساندة صوت الدعاة الضارب إلى تقسيم كتاب الله إلى علاجات بأن أصبح لكل مرض عضوي ونفسي وكل ضيقة نفس أو مخاوف آيات مخصصة، حتى أصبح الكتاب الكريم في حاجة إلى خبراء يفصلون آياته كما يفصل الطبيب وصفاته الطبية المعقدة.

حماية للقرآن الكريم وحماية لعقول البسطاء من المجتمع وحماية لصحة الناس وحماية للعلم والعقل العلمي وحماية للتقدم الذي نصبو إليه يتوجب النظر في هذه الوظيفة التي لم يعرفها الإسلام في تاريخه.