-A +A
نايف علي الشراري
لم يكن الترحال بدعة جديدة في التاريخ الحديث، إنما هو ممارسة فعلية قام بها الإنسان على مر العصور التاريخية المتنوعة لاكتشاف المجهول من حوله، فالرحلة وإن كانت كلامًا عن المعلومات الجغرافية التي يصف فيها الرحالة طريقه التي سلكها والبلدان التي زارها، إلا أنها تتناول قضايا متعددة تتصل بالتاريخ والفكر والسياسة، وتعد منطقة الجوف من مناطق الجزيرة العربية شحيحة المصادر في العصر الحديث، إلا أنها لم تكن مجهولةً لدى الأوروبيين الذين عبروا أراضيها منذ منتصف القرن التاسع عشر الميلادي، تدفعهم لذلك دوافع سياسية ودينية واقتصادية إضافة إلى حبهم للمغامرة والاستكشاف العلمي، فكان للمنطقة حظ وافر من نصوص أولئك الأوروبيين عن تاريخ وجغرافية واقتصاد منطقة الجوف، إضافة إلى النواحي السياسية والدينية والعلمية والاجتماعية والعمرانية، ولهذا فمن المؤكد أن كتاباتهم تشكل مصدرًا مهمًا لا يمكن الاستغناء عنه عند دراسة إستراتيجية منطقة الجوف.

ولكون منطقة الجوف تتوسط كلاً من: العراق وسوريا وشرقي الأردن وفلسطين؛ فإن الدول الأوروبية اهتمت بالمنطقة وأولتها عناية كبيرة من خلال دراسة إستراتيجيتها ومحاولة تطبيق عدد من المشروعات فيها منذ ما قبل الحرب العالمية الأولى وبعدها، غير أن وصول نفوذ الملك عبدالعزيز رحمه الله إلى منطقة الجوف في اللحظة الحاسمة أدى إلى استبعاد تطبيق هذه الإستراتيجيات.


إن ما كتبه الرحالة الأوروبيون عن الأحداث التي شهدتها منطقة الجوف قبل دخولها في حكم الملك عبدالعزيز جعل الأعين تتجه إلى ترجمة بعض نصوص رحلاتهم، في حين أهملت ترجمة كتابات البعض الآخر على اعتبار أن الكتابات التي تناولت الأحداث السياسية هي الأهم -في نظر أولئك المترجمين- خلال تلك الفترة، ومن هنا أهملت ترجمة كتابات الأوروبيين التي تناولت إستراتيجية منطقة الجوف وأهميتها المستقبلية.

وتتناول إستراتيجية منطقة الجوف في نظر أولئك الأوروبيين ثلاثة محاور هي: (الموقع الجغرافي، السكان، المنتجات الطبيعية).

فمن حيث الموقع الجغرافي: يرى الأوروبيون أن منطقة الجوف ذات موقع إستراتيجي له تأثيره على المنطقة الواقعة في ما بين (العراق ورأس الخليج العربي) وحتى (خليج العقبة ومصر) مرورًا بالأردن وسوريا.

وهذه المنطقة تكتسب أهميتها الجغرافية من (المناخ الصحي) كما أسموه والمتمثل في أجوائها المعتدلة خلال فصل الصيف، وكمية الأمطار الكبيرة التي تشهدها خلال فصل الشتاء، وهي أرض خصبة جدًا لدرجة أنها تُنبت من أقل كمية للمطر.

وتكتسب المنطقة أهميتها من تنوع تضاريسها الطبيعية، حيث تجتمع فيها: الأرض الرملية كالنفود، والحجارة البركانية كالحرة، والمنطقة السهلية الخصبة كبسيطاء، والمنطقة المرتفعة كالحماد، كما أن فيها منخفضات وبركا تحتفظ بمياه الأمطار المنحدرة من روافد الأودية الكثيرة التي تجعل منها أغنى منطقة بعدما كانت أفقر منطقة جافة.

أما من حيث السكان: فإن الوجود البشري في منطقة الجوف قديمٌ جدًا عبر العصور التاريخية منذ ما قبل الإسلام مرورًا بالعصور الإسلامية ووصولا إلى العصر الحديث، وهذا أكسبها أهمية تاريخية يمكن استنتاجها من الآثار والقطع الأثرية والرسومات والكتابات والنقوش المنتشرة فيها.

ومن حيث المنتجات الطبيعية: يرى الأوروبيون أنه بالإمكان إنتاج التمر وزراعة القمح والشعير والذرة والسمسم والفواكه والخضراوات، كما يمكن الاستفادة من الثروة الحيوانية ومنتجاتها، إضافة إلى إمكانية إنتاج الملح.

ويرون أن مستقبل منطقة الجوف يكمن في احتوائها على طرق المواصلات التي تعد حلقة الوصل بين أوروبا والشرق، وهذا يقودنا إلى أهمية وجود مطارات دولية في المنطقة.

ويرون -أيضًا- أن منطقة الجوف سوف تكون وجهةً جديدةً لسكان وسط الجزيرة العربية، فهي (المنطقة الواعدة) كما يسمونها، فمنطقة الجوف في نظرهم: موقع إستراتيجي بالغ الأهمية، متوفر الإمكانات والثروات الطبيعية المتنوعة، والطاقات البشرية ذات الخبرات التاريخية.

إن كان هؤلاء الأوروبيون قد قرأوا إستراتيجية منطقة الجوف في القرن التاسع عشر الميلادي؛ فإن سمو ولي العهد الأمير محمد بن سلمان -حفظه الله ورعاه- قد استلهم تلك الإستراتيجية ووضع حجر الأساس لها في مطلع القرن الحادي والعشرين من خلال تأسيسه لمكتب إستراتيجية تطوير منطقة الجوف إعلانًا من سموه الكريم ببدء عملية تحديث وتطوير منطقة الجوف وفق رؤية المملكة 2030م.

وإن كانت منطقة الجوف قديمًا بمثل هذه المقومات الإستراتيجية، فإنها اليوم تحظى بأميرٍ طموح يتقد حماسةً وحبًّا للمنطقة وأهلها، إنه صاحب السمو الملكي الأمير فيصل بن نواف بن عبدالعزيز، حفظه الله ورعاه، الذي استبشر أهالي المنطقة بمقدمه خيرًا كثيرًا وهو بلا شك أهلٌ لذلك، لما يتصف به سموه من إخلاص وحب للعمل، وهم يُعلقون على سموه الكريم آمالا كبيرة للنهوض بالمنطقة واستدراك ما فاتها من مشروعات حيوية، لتكون كمثيلاتها من مناطق المملكة العربية السعودية في الريادة والتميز.