-A +A
ريم العسيري
لم يجتذبني وطن بقوة نحوه -بعد وطني- إلا العراق؛ الذي يجعلني في كل مرة أقترب فيها من كل ما يمت له بصلة على موعد مع دهشة أخَّاذة أو حزن جديد. يجيد العراق إرضاء مزاجي وإثراء عقلي وإبقاء قلبي على قيد الحب، يصب في لحظاتي الجمال والسلام على هيئة أغانٍ ومواويل وأشعار، يأخذني إلى كل حضارة نشأت على أرضه لأشعر حينها بالزهو وكأني نخلة بابلية أو قصيدة للميعة أو السياب أو لحن للقرغولي أو لوحة لمحمود عبود أو أغنية لناظم أو كاظم. ويحولني أمام إنسانه الصامد وثقافاته ولهجاته ومناطقه الجميلة إلى طفلة مذهولة وعاشقة تلمع عيناها بالحب.

لم أكن أعرف العراق كثيرا قبل أن يمتلئ قلبي حبا لكاظم الساهر في عام ٢٠٠١ عندما كنت طفلة في الثالثة عشرة، كان هو النافذة التي أطل منها على وطنه العظيم الذي أخذني إليه بصوته وأغنياته وموسيقاه ولهجته وأحاديثه. تعلمت منه ومن رجال فرقته الموسيقية كيف أرقص «الجوبي» ووضعت حبات الهيل في الشاي لكي أتذوق «جاي أبو الهيل» الذي عرفته من خلال موال «يا دنيا» الذي يتجلى فيه عذاب العراقي المغترب الذي اقتلعته الحروب والمآسي من وطنه الجنة وأدخلته جحيم الغربة، وصار يتساءل بقهر مع خضير هادي كلما داهمته النوستالجيا «ليش غيري يشمك وأنا أغار».


في ٢٠٠٣ عرفت معنى الظلم بشكل أعمق وفهمت ماذا تعني كلمة «حرب» بكل وحشيتها وشناعتها وشرورها عندما تم غزو العراق. لم أحتمل صدمة محاربة الوطن الذي أحببته، ونسيت حينها أني صبية في الخامسة عشرة ونضجت كثيرا وصرت أحمل هم العراق وأنحاز إليه بكل جوارحي، أتابع نشرات الأخبار لأجله وأقيم حدادا في قلبي على شهدائه وأحمله مع كتبي ودفاتري إلى المدرسة وأبقيه داخل قلبي، وعندما أعود إلى المنزل أتوجه فورا إلى التلفزيون لأشاهد قناة «المستقبل» اللبنانية التي كانت تبث على مدار اليوم أغنية «كَثُرَ الحديثُ عن التي أهواها» وأغني مع كاظم لبغداد الجريحة ولأطفالها الذين «يسألون عن أي ذنب يقتلون» لعل العالم يسمع صرخاتهم ولعل الموت يخجل من انتزاع أرواحهم الطاهرة.

لم تكن في العراق أسلحة دمار شامل كما ادعى الغُزاة؛ بل كان فيه ملايين من البشر الأبرياء والبيوت الآمنة والنخلات والثروات والشباب بأحلامهم النقية والأطفال الذين يحلمون باللعب مثل «علي عباس» الذي كان محاطا بأهله قبل أن تسقط غارة أمريكية على منزله ويفقد ١٦ فردا منهم ويفقد معهم ذراعيه ويحترق جسده. لا يمكنني نسيان ذلك العلي الذي أرقني وجعه وظَلَّ وجهه يرافقني وحضر معي حصة التعبير لتكون عنه أول قصة قصيرة أكتبها وأختمها بأمنية معانقته ومعانقة كل أطفال العراق.

«خطار عدنه الفرح».. هكذا أصبح الواقع في العراق الذي تجسده هذه الجملة من أغنية إلهام المدفعي؛ فالفرح يزوره كضيف متعجل ثم يرحل سريعا منذ تاريخ ٦ أغسطس١٩٩٠ الذي بدأ فيه الحصار واستمر ١٣ عاما وأدى إلى وفاة مليون و٦٥٠ ألف شهيد من بينهم عشرات الآلاف من الأطفال الذين لا قيمة لهم عند حكومة أمريكا؛ فعندما سُئلت وزيرة خارجيتها آنذاك مادلين أولبرايت عن موت ٥٠٠ ألف منهم نتيجة الحصار قالت بكل وحشية: «نعتقد أن الثمن يستحق ذلك». لم تكتفِ أمريكا المصابة بسادية قتل العراقيين بهذا القدر من الأرواح العراقية؛ فحاربت العراق في ٢٠٠٣ وقتلت ٦٥٥ ألف شهيد ومهدت الطريق لجماعات الإرهاب والميليشيات لتكمل ما بدأته حتى صار العراق اليوم بلد الأربعين مليون حزين ومقهور.

عندما يقول العراقي «أروح لك فدوة» فإنه يقولها بصدق وتفان إلى حد الموت والاغتراب والاحتراق؛ فقد «راحوا فدوة» لأجل العراق منذ حرب الخليج الأولى وحتى اليوم أربعة ملايين شهيد وصار الموت هناك يوزع بالجملة منذ ٢٠٠٣ وحتى كتابة مقالي الذي يتزامن مع فاجعتي حريق مستشفى الحسين بالناصرية وتفجير مدينة الصدر المتزامنتين مع مجيء عيد الأضحى، ليتحول العيد إلى عزاء، ويصبح لسان حال الناس ما قاله نجم عبد العال «يا عيد اِلمن تجي.. لو ما تجي أحسلّك».

عَلَّمنا العراق السلام؛ فحاربناه، عَلَّمنا كيف يكون الحزن عظيما؛ فأبكيناه، أطربنا بأجمل الأغاني وعندما كان يصرخ من شدة أوجاعه أدرنا له ظهورنا وخذلناه. عَلَّمنا التسامح الديني؛ باحتضانه مختلف الأديان، فقتل الشياطين المختبئون خلف أقنعة رجال الدين الكثير من أهله بفتاواهم الدموية، عَلَّمنا الحضارة والثقافة والقيم والاقتصاد الذي وضع البابليون أقدم أنظمته؛ فحاربه مدعو الإنسانية وقتلوا وشردوا أهله ودمروا أرضه ونهبوا ثرواته وأضعفوا اقتصاده وجعلوه يعتلي المراتب الأولى في قوائم الدول الأقل سعادة والأضعف جوازا والأكثر فسادا. صَدَّرَ لنا كل ما من شأنه الارتقاء بالإنسان والأوطان فصَدَّرَ له الأعداء الإرهاب والطائفية والفتن، سنَّ لنا أول القوانين المكتوبة في تاريخ البشرية فخانته العدالة ولم ينصفه أي قانون.

ألا تكفي ٣١ عاما من عمر العراق التي تجرع خلالها الحزن لكي يتوقف العبث الذي يحدث على أرضه ولكي نداوي جراحه ونخرجه من عزلته إلى الأبد، ألا تكفي دموع الأمهات وصرخات الآباء لكي يتوقف القاتلون، ألا تكفي الآثار التي دُمرت والنخلات والكتب التي أُحرقت لكي نحافظ على ما بقي من كنوز العراق، ألا يكفي القهر واليأس اللذان يلازمان شبابه منذ ٢٠٠٣ لكي تمتد إليهم أيادي الدول القوية اقتصاديا كوطني لتعيد إلى نفوسهم الأمل وتمنحهم فرص العمل التي تليق بهم.

لو كان العراق رجلا لعانقته ومسحت دمعاته وأمسكت يده وأخذته بعيدا عن عالمنا المتوحش وخبأته عن أعين الطغاة وانتشلت من أعماقه الحزن والغضب اللذين يسكنانه منذ آلاف السنين وجعلته يغني «وداعا يا حزن.. ولا توصل بعد».