-A +A
منى المالكي
ليس منَّا من لم يقل شعرًا أو ما توهمه شعرًا! إنها الحياة قصيدة عظيمة كلنا نحاول ترتيب أوزانها على خيباتنا وترويض قوافيها على صدى أفراحنا، ولكن من هو الحكم في كبح جماح ذلك الشطر الشعري النافر من أحكام النقد الصارم؟ هل هم أولئك النقاد المتربصون بكسر هنا أو معنى غريب هناك؟! هنا انقسم الجميع أمام النار المقدسة بين شاعر وناقد كل منهما يذهب إلى أنه الأحق والأجدر بعذابات الاحتراق ولذة القول.

ومن أجل ذلك اتجه الشعراء منذ زمن إلى التقليل من قدر الأحكام النقدية للنقاد والتي وصموها ووصفوها بالتنظير فقط؛ إذ يطلقها النقاد وهم في الأصل لم يعايشوا تجربة الإبداع بكل ألقها الرائع الذي لا يعرفه غير الشعراء أنفسهم، إن إبداع القصيدة -على نحو خاص- عملية معقدة لم يستطع أحد الكشف عن أغوارها السحيقة، فهي تتم في اللاوعي وتقفز إلى الوعي كائنًا مكتملًا مستويًا كاملًا تام النضج. ومما يؤكد ذلك شهادات الشعراء أنفسهم؛ فالشاعر الإنجليزي الرومانسي المعروف كولردج «كان يطالع ذات صباح فغلبه النعاس ثم أفاق من نومه وأخذ يخط بسرعة قصيدته المشهورة «كوبلاخان» حتى وصل إلى البيت الرابع والخمسين منها»!!، كذلك الشاعر الإنجليزي جون ماسفيلد الذي يقول إن قصيدته (المرأة تتكلم) «ظهرت له في الحلم منقوشة بحروف بارزة على صفحة مستطيلة من المعدن وما كان عليه إلا أن ينسخها»!


ويبدو أن هناك اتفاقاً بين الشعراء على اختلاف منطلقاتهم وما يمتلكون من خلفيات ثقافية؛ فمن الشعراء الإنجليز إلى صلاح عبدالصبور الذي صور لحظة الميلاد الشعري على نحو قريب من رؤية الشعراء الإنجليز؛ إذ تولد القصيدة عنده دون مقدمات وبلا حسبان وبلا تفسير ودون إدراك لكيفية ذلك يقول:

لأن الحب مثل الشعر

ميلاد بلا حسبان

لأن الحب مثل الشعر، ما باحت به الشفتان

بغير أوان

لأن الحب قهار كمثل الشعر

يرفرف في فضاء الكون لا تعنو له جبهة

وتعنو جبهة الإنسان

فالشعر عالم خاص ذو بناء خاص يتشكل وفق معطياته الخاصة ولا يفرض عليه شيء من خارج هذه البنية المتفردة؛ فالشاعر «حر وهو يضع قوانينه وهو فوق القوانين الشعرية وليست فوقه. هو الذي يضع النظام ولا يضعه النظام» فهم أمراء الكلام كما قال بذلك الفراهيدي!

على هذا النحو تشكل فهم الشعراء للشعر ونظرتهم إلى سطوته القاهرة القادرة على تحطيم الثابت وإعادة تشكيل الواقع. وإنما بزغت هذه النظرة من إيمان الشاعر بشعره ونظرته إلى مدى ما يمتلك من موهبة، وهي نظرة نكاد نجد أصداءً لها في الثقافات المتعددة؛ ففي النقد الغربي الذي جعل معرفة الشاعر بشعره أعمق من تأويلات النقَّاد الذين يبدو عملهم أشبه بمن «يصنع خرائط لجبال العالم الذي يرودونه غير أنهم هم أنفسهم لم يتسلقوا تلك الجبال» كما يقول بذلك، أرشيبالد مكليش في كتابه الشعر والتجربة.

فهل حُسمت المعركة وارتفع لواء الشعراء منتصراً؟! أم ما زالت هناك جولات أخرى؟!