-A +A
عبدالله بن بخيت
مشكلة لبنان في تعريفه لنفسه.. مراجعة هذا التعريف هو خلاص لبنان..

في إحدى زياراتي لبيروت جلست مع عدد من الأصدقاء في مطعم في السوليدير. أحضر الجرسون قائمة الطعام فتناولتها. قلّبتها. لفت نظري أن القائمة مكتوبة بالإنجليزية والفرنسية. فطلبت من الجرسون أن يحضر قائمة الطعام العربية فقال لا يوجد قائمة باللغة العربية. في الحقيقة لم أكن في حاجة لقائمة الطعام فالمسألة تبولة ومشويات وغيرها من المطبخ اللبناني. بعد أن ذهب الجرسون التفت إلى زميل صحفي لبناني كان يجلس معنا فسألته مستغرباً: جميع ضيوف السوليدير من الخليجيين كان يفترض أن تكون القائمة باللغة العربية. فقال (الصحفي) اللبناني: أنت ما تعرف هون عنا في لبنان كل عائلة بتتكلم أكثر من لغة، وضرب مثلاً ببيته قائلاً: عندي ابن يتكلم إسباني وآخر يتكلم فرنسي إلخ. سكت وغيّرت الموضوع.


في إحدى المسابقات على التلفزيون فازت امرأة لبنانية بمبلغ مالي بالريال السعودي، فسألت المذيع كم بيكون هذا المبلغ بالدولار. لم تأتِ على سيرة عملة بلدها فأوحت أنها لا تتعامل إلا بالدولار وهذا شيء طبيعي، فلبنان البلد الثاني بعد أوغندا الذي يستخدم مواطنوه الدولار كعملة محلية.

حلم اليقظة طبيعة إنسانية، ولكنه يصبح مدمراً إذا استغرق حياة الإنسان، فكيف إذا استولى على طيف واسع من شعب؟

يعيش الإنسان اللبناني في دولة الرفاهية والحريات والتقدم. هكذا يرى اللبنانيون أنفسهم. ويسعده أن يسمع من يقارن بين لبنان وبين سويسرا. اللبناني يؤمن أن بلاده تملك نظاماً سياسياً متقدماً على المنطقة، أن بلاده تتمتع بنظام مصرفي أفضل من العرب وحرية رأي أفضل من العرب دون أن يدرك الحقائق المحيطة بهذه المؤسسات. على سبيل المثال لا يريد أن يرى أن حرية الرأي في لبنان تقابلها حرية الاغتيالات. وأن الديموقراطية في بلاده هي ديمقراطية أمراء حرب. ولا يريد أن يدرك أن الكاتب الفلاني أجير عند الدولة الفلانية والآخر أجير عند الدولة الأخرى والكاتب الآخر أجير عند دولة ثالثة.

في كل دولة ثمة عملاء لدول أخرى بيد أن هذا في جميع دول العالم اتهام يستوجب الازدراء. في لبنان تستطيع أن تضع قوائم بالأجراء المثقفين. يتشاتم الكاتب اللبناني مع الكاتب اللبناني الآخر وفقاً لحسابات دول أخرى. هذا يؤيد دولة ويمدحها والآخر يؤيد دولة أخرى ويمدحها وبلادهم في هذه الحوارات كالكرة بين الأقدام.

عندما قال الكاتب عبدالله القصيمي العرب ظاهرة صوتية فاته أن يقول أن لبنان ظاهرة حلم يقظة. لبنان منخرط في السياسة في كل مكان بولاءات متفرقة بين الدول دون أن يكون عنده رصيد ثقافي. فلبنان لم ينتج روائيين بارزين ولا ممثلي دراما مميزين، ولم ينتج سينما ولم يقدم لاعب كرة واحداً، والغائب العربي الوحيد عن كأس آسيا. ومعظم المغنين اللبنانيين صدى للغناء المصري. رغم هذا عندما تسمع الخطاب اللبناني تشعر أن لبنان هي بلد الرواية العربية والمسرح العربي والسينما العربية ويوجد بها مدينة إعلامية تضاهي هوليوود. أتذكر عندما قدم الإعلامي اللبناني جورج قرداحي الفنانين ناصر القصبي وعبدالله السدحان في برنامج من سيربح المليون أن قال من باب المديح: هذان النجمان استطاعا أن يقدما فناً سعودياً خالصاً بعد أن كانا ضائعين بين بيروت والقاهرة. لا أحد يتذكر أن بيروت موطن لفن الدراما؛ لكي يضعها المثقف اللبناني في مصاف القاهرة إلا في حالة حلم اليقظة.

تنوع المرجعيات الثقافية وتناقضها غذى حلم اليقظة بالحرية الاجتماعية كخروج المرأة اللبنانية على الشاطئ بملابس البحر كالأوروبيات فقدم الدليل أن لبنان يضاهي الدول الأوروبية.

اغتيل اثنان من رؤساء لبنان ولم يحاكم أحد. اغتيل اثنان من رؤساء الوزارة ولم تفتح قضية قضائية. اغتيل عشرات الكتاب والمثقفين وكأن شيئاً لم يقع. قبل أشهر انفجر ميناء بيروت بما يشبه انفجار قنبلة نووية ونسي الناس الموضوع. لبنان نسيج وحده. دولة متقدمة وفاشلة في نفس الوقت. متقدمة في الحلم وفاشلة على الأرض. أسهمت نظرية المؤامرة في تغذية حلم اليقظة وحمته من الانكشاف. نظرية المؤامرة تسد الثغرات التي قد يتسرب منها العالم الحقيقي والمؤلم في كثير من الأحيان. عندما تكون غارقاً في حلم يقظة لن ترى المآسي التي تحف بك ولن ترى ذاتك أصلا.