-A +A
محمد مفتي
تعتمد المناهج الدراسية الحديثة على الترابط والتكامل والاهتمام بالتطبيق العملي وتداخل التخصصات على النحو الذي يخدم من خلاله كل تخصص التخصص الآخر المرتبط به أو المعتمد عليه، بخلاف اهتمامها بطرق التفكير النقدي وتنمية قدرات الطلاب الإبداعية، بعكس المناهج الدراسية التقليدية التي تعتمد بصورة كاملة على الحفظ والتلقين وتدريس المناهج النظرية، والتي يتميز كل تخصص فيها بانغلاقه على نفسه دون أن يكون له أدنى علاقة بالتخصصات الأخرى القريبة منه أو المرتبطة به فعلياً، وهو الأمر الذي ينتج عنه في النهاية فهم جزئي قاصر للعلوم، لا يتسم بالشمول ولا الترابط.

في اعتقادي أن مجتمعاتنا التعليمية العربية تفتقد لحلقة أخرى تحتاجها المناهج الدراسية الحديثة بشدة، وهي مزيد من الاهتمام باللغة العربية كأداة تواصل وتعبير عن المعلومات المتضمنة في المناهج الأخرى؛ سواء كانت علمية أو أدبية، فاللغة العربية هي لغة القرآن الكريم، وهي اللغة التي طالما برعت في التعبير عن شتى المعلومات في كافة الفروع العلمية على مدار التاريخ القديم والحديث على حد سواء، وبرهنت على كفاءتها وقدرتها على نقل شتى المضامين العلمية التي حوتها الحضارات الأخرى وترجمتها بمنتهى السلاسة والقوة والدقة لجميع الناطقين بالعربية، لذلك فهي تحتاج على وجه الخصوص عناية مركزة واهتماماً بالغاً، ولعل التركيز على العلوم الأخرى في مختلف المراحل الدراسية على حساب مقررات اللغة العربية، ساهم في انتشار بعض الأخطاء اللغوية «غير المتعمدة» والمتداولة حتى عبر وسائل التواصل الاجتماعي بين الأجيال الحالية.


من المهم الاهتمام بتضمين مادة اللغة العربية وبشكل قوي في جميع المراحل الدراسية دون استثناء، واللغة العربية لغة ثرية مرنة عريقة لم يعجزها يوماً التعبير عن أي وصف أو عرض فكرة مهما بلغ تعقدها أو تشابكها، غير أن اللغة العربية لغة متشعبة عميقة تحتاج تبحراً وتوسعاً في فروعها المتعددة لإتقانها على النحو المأمول، وهذا لا يعني مطالبة جميع الطلاب بالتبحر في علوم اللغة العربية بكافة فروعها قديماً وحديثاً، لكن ما نحتاجه فعلياً لا يتجاوز مجرد الاهتمام بتعلم قواعد ومبادئ اللغة العربية ودمجها في المناهج الدراسية على نحو يسمح للطلاب باكتساب المهارات اللازمة للتعبير والإفصاح عن معلوماتهم، بطريقة صحيحة نحوياً وإملائياً، ومن خلال استخدام تراكيب وتعابير سليمة ودقيقة نحواً وصرفاً.

لو دققنا النظر بعض الشيء في مادة «التعبير» المقررة على الطلاب، فإننا سنكتشف أن مدلول الكلمة لم ينبع من الفراغ، فهذه المادة تعلم الطلاب القدرة على التعبير عما يُطلب منهم بطريقة منضبطة وصحيحة، وبالتالي فهي تؤهلهم لمرحلة تالية عندما يُطلب منهم التعبير عن مضمون يخص واقعهم العملي، وهي بذلك تنمي داخلهم ملكات الإبداع اللغوية وتصقل مهاراتهم في الكتابة، والقدرة على التعبير على هذا النحو تصبح مهارة لاحقاً، وبعد اكتساب المهارات العلمية المحددة في أي تخصص دراسي يصبح -إتقان قواعد اللغة- متطلباً إلزامياً يحول تلك المهارة العلمية لناتج مفهوم ومُعبَر عنه بشكل صحيح، فلو لم يمتلك الطالب (المتخرج في ما بعد) القدرة على التعبير عن معلوماته بكفاءة، فإن المعلومات العلمية والبيانات التي يحفظها عن ظهر قلب لن تتحول إلى تقارير خارجية مفهومة وصحيحة، وستظل حبيسة رأسه ولن تتمكن مؤسسته التي يعمل لصالحها من تحويلها لنتائج إيجابية ملموسة.

على سبيل المثال كتابة التقارير الإدارية الخاصة بمختلف المجالات وفي الكثير من التخصصات المطلوبة التي يحتاجها سوق العمل حالياً تحتاج تلك المهارات، فتنسيق التقرير ودمج المعلومات والقدرة على استخلاص النتائج بعد عرضها وتحليلها، تتعلق جميعها بإتقان مهارات اللغة على اتساعها وتعددها، وهي المهارات التي تعتمد بصورة كبيرة على الكتابة دون أخطاء لغوية تشوه مضمون التقرير رغم قوته، فالأخطاء تفسد القدرة على فهم النص في بعض الأحيان، كما أن اللغة الركيكة تضعف من قيمة المخرجات حتى لو ليس لها علاقة مباشرة بتلك المخرجات.

غير أنه لا شك لدينا في أن مشكلة ضعف امتلاك المهارات اللغوية والخلط بين الأخطاء الإملائية لا يمكن حلها ببساطة من خلال المناهج الدراسية فحسب، فالمناهج الدراسية مهما بلغت من الدقة والإحكام لا يمكنها بمفردها بناء جيل جديد من الشباب الواعي لإمكانيات وقدرات لغته الثرية، وحل هذه المشكلة يكمن في توسيع مدارك الطلاب وصقل لغتهم من خلال القراءة المكثفة على فترات متوالية طوال حياتهم، وهو ما سيكسبهم إدراكا لقواعد اللغة، وسيحميهم من الوقوع في الأخطاء الإملائية والنحوية الشائعة، كما سيمكنهم من إعادة إنتاج ما قرأوه على نحو تلقائي دون بذل مجهود كبير، ومن خلال الاهتمام بالتوسع في نشر ثقافة القراءة باللغة العربية السليمة سوف نتمكن من تقليص الهوة بين الجانب النظري والواقع الفعلي للأجيال الحالية.

كاتب سعودي

Prof_Mufti@

dr.mufti@acctecon.com