-A +A
نجيب يماني
عندما طالعت مقال الأستاذة حصّة آل الشيخ، الموسوم بـ«أنقذوا الإسلام من الفقه» (الرياض17041)، تراءت أمامي صور لمقالات سابقة نشرت في وسائل التواصل المختلفة، شرّع فيها كاتبوها نافذة سجال لم يكملوها وتركوا خلفهم جملة من الأسئلة المعلقة بهذه القضية، كنت أراها مفاتيح تقود إلى إزالة اللبس وتحرير مناط الاختلاف، وتحديد هوية النقاش، وفتح مسارات السجال على أسس علمية سليمة، وهي ذات الأسئلة التي سأتوجه بها إلى الكاتبة القديرة «حصة» لما اتسم به مقالها من تشابه حد التطابق شكلاً وموضوعاً مع بعض هذه الأطروحات التي استندت على مقولات قلقة لباحثين عليهم من مظان الريبة وسوء القصد ما لا يخفى على ذي بصيرة، ومن له مسكة من معرفة في نقد الرجال، وتحرير الأهداف والمقاصد والغايات، منهم من تبنى مقولات للمفكر الجزائري الحاج دواق، بينما اتكأت الأستاذة «حصة» على مبحث للمستشرق الألماني يوسف شاخت. والمدهش حقًّا أنهم تماهوا مع أطروحات هؤلاء الباحثين حد التطابق فلا تستطيع في السياق أن تفرق بين ما هو للباحث وما هو من حصاد أقلامهم، في صورة تبعث في روع القارئ الحيرة، وصعوبة تمييز المنقول من المسطور، والمجتزئ من المحرر، فثمة أقواس مفتوحة غير مغلقة، وتداخل بين الآراء بصورة أقرب إلى «المخاتلة» المفضية إلى الظن بـ «عدم الأمانة الفكرية» لا سمح الله.

فالمنقولات التي استندوا إليها جعلت من الفقه وأئمته هدفًا لهم فخصص «دواق» الإمام الشافعي بسهام نقده الطوائش، وجمع «شاخت» الفقه كله في«تخت» رمايته، وأرسل عليه روائشه بالتشكيك، وتكذيب المرويات


فكل هذه الأطروحات تبنت مقولات هؤلاء دون مساءلة وحوار ونقاش، على الرغم من الثقوب والفجوات الفكرية التي بها.

وقد أطلقت الزميلة حصة أحكاماً قيمية ومعيارية غاية في الخطورة، دون أن تتكرم وتتفضّل علينا بإيراد الشاهد والدليل والبرهان، خذ مثلاً منقولها عن «شاخت» (إن الفقه الإسلامي في معظمه لم ينطلق من النص القرآني، بل هو عمل بشري ابتعد عن مقاصد القرآن ونصه، وهذا الوضع هو الذي أدى إلى بروز رجال حاولوا التوفيق بين المبادئ القرآنية وما هو معمول به في الفترة الأموية، وهؤلاء الرجال كانوا من المقربين للحكام الأمويين، مما ساعدهم على إقناعهم بتنصيب قضاة منهم..)، هنا لا بد من وقفة فما ورد مثار للأسئلة والإيضاح طالما أنها تتبنى مقولته القلقة هذه؛ فما هي هذه الأحكام الفقهية في كافة المذاهب الأربعة التي لم تستند إلى القرآن الكريم أو السنة النبوية في مصادرها ؟ وما هو وجه التعارض الصارخ الذي يدفع إلى هذه المقولة العدمية..!؟

أما قولها: .. الفقه يمثّل أحد أشكال تحول التدين العفوي في زمن النبوة بالخصوص إلى تدين مقنن يخضع لمدرسة الفقه المؤسس على تاريخ هيمنة للحكام والمفروض بقوة الاستبداد وسلطة القداسة، فمجتزأ يضعنا أمام شكلين من التدين؛ عفوي ومقنن! والحق أنني لم أفهم شيئًا، فهل التدين في العهد النبوي لم يكن يستند إلى نص تشريعي/‏قانوني وإنما كان يترسّل هكذا «عفويًا» بغير ضابط أو قيد محكوم، حتى جاء «الفقهاء» فعبثوا بـ«عفويته» عبر «التدين المقنن»..! أي عبارة هذه التي تذهب هذا المذهب الوعر دون أن تفك مغاليقه بالبرهان الساطع والحجة الدامغة؟

بوسعي أن أطارد كل سطور المقالة بالأسئلة الباحثة عن دليل لما جاء فيها من أحكام معيارية، ولا أخشى القول بأنها تنطلق من «عدمية معرفية»، تنسف ما هو قائم لأسباب نفسية أكثر منها عقلية وفكرية، وتستهدف المعتقدات والقيم والأفكار الدينية والأخلاقية والتاريخية بسهام الشك، خالصة إلى أحكام صمدية، تُطلق بـ«مجانية» تستهزئ بمتطلبات الشاهد والبرهان.

إن الأسئلة تظل مشرعة مع كل هؤلاء أمثال «شاخت» في ضوء هذا المقال المحفّز على السجال الفكري، الذي أتوسم أن تعود إليه الكاتبة وفي معيتها الإجابة عن ما يلي حتى نستبين الطريق والغاية من حالة التشكيك في الفقه الإسلامي أي مذهب فقهي خالف في أحكامه ما هو منصوص في القرآن الكريم والسنة المطهرة؟

• استنادًا إلى ما جاء في المقال ونصّه «ليس لمدرسة الفقه وقواعدها أن تصبح مصدراً أبدياً يتمتع بقداسة الوحي أو فرضية النصوص» أي مذهب من المذاهب الفقهية السائدة ادعى هذه الدعوة أو قال بنهاية التفكير والاجتهاد؟ أو حرم على الآخرين أن يغوصوا في مجاهل الفقه ويكيفوا المسائل المستجدة بما يتناسب والعصر، بدل اللجوء إلى كيل الحرام.

• أي علاقة هذه التي جمعت بين تاريخ صراع الكنيسة والمسيحية وما أفضت إليه من قطيعة مجتمعية، وتاريخ المسلمين مع الفقه.. ما هي أوجه هذا التشابه المزعوم؟

• بالنظر إلى هذا المجتزأ من المقال (عندما كثر هؤلاء القضاة كونوا ما يسمى بالمدارس التشريعية القديمة مما خلق ما يمكن تسميته بالسنة الحية، التي استندت إلى فكرة العادة لإسباغ الشرعية على ما تصدره من أحكام، ودائماً في إطار إكساب الأحكام شرعية اجتماعية ودينية أسند أصحاب المدارس القديمة آراءهم إلى التابعين ممن كانت لهم مكانة دينية كابن المسيب والنخعي، ثم انتقلوا إلى نسبة آرائهم إلى الصحابة، ثم تدرجوا إلى نسبتها إلى النبي وبذلك اتخذت آراؤهم طابعاً إلزامياً) أي مرجع تاريخي لهذا الرأي.. وما معنى «السنة الحية».. ومن هم «التابعون» الذين «زوّروا» ناتج أفكارهم ونسبوها إلى مرجعيات مقدسة ظلمًا وبهتانًا.. وما وجه الخلاف بين قولهم والنصوص الفقهية الواردة في الكتاب والسنة؟!

اكتفي بهذا لضيق المساحة.. ولي عودة إن أمدّ الله في الآجال.

كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com