-A +A
علي بن محمد الرباعي
لو كانت السياسة شأناً من شؤون الدِّين، لنص عليها القرآن الكريم، وأوصانا بالتعبد بها لأنه لا يهمل التنصيص على شرع، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب، ولم يؤخر النبي عليه السلام بياناً عن وقت حاجته، ولم يتعامل مع قريش وأهل المدينة على أنه صاحب سُلطة، ولا قائد ثورة، بل حامل رسالة أمن واستقرار وسلام، والدِّين لُب الإسلام ومهمة الأنبياء المبشرين والمنذرين التبليغ (لئلا يكون للناس على الله حجة) وخارج اللُّب بنى الإسلام نفسه تاريخياً وفق معطيات دنيوية وقيادة وزعامة اجتماعية مردها ومرجعها العُرف والعادة عبر اجتهادات بشرية تتقاطع مع معظم سيرورات الأمم.

يرى بعض المفسرين أن من آخر القرآن نزولاً آية (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيتُ لكم الإسلام دِينا)، والآية رسالة خاتمة نزلت في حجة الوداع لتضع الأمور في نصابها. ومعناها ظاهر لا يستدعي شروحات ولا تفاسير ولا تأويل. فالله رضي لنا الإسلام النقي دينا، لنتعبده بالتوحيد الخالص من الشرك والشك والرياء والنفاق، وبالعبادات الواردة في حديث الرجل الذي سأل النبي عليه السلام عن الإسلام ؟ فقال: خمس صلوات، وصيام رمضان، والزكاة، فقال: هل عليّ غيرها؟ فأجابه: لا إلا أن تتطوع، فأدبر وهو يقول: والله لا أزيد ولا أنقص، والنبي عليه السلام يردد «أفلح إن صدق».


إذا كان النص القرآني الصريح والقطعي الثبوت والدلالة ينص على أن الله رضي لنا الإسلام دِينا (ورضيتُ لكم الإسلام دِينا) والرسول عليه السلام طبّق الدِّين عملياً، عبادة وسلوكاً، فمن الذي حوّر وغيّر وبدل واشترى بآيات الله ثمناً قليلاً ليقنعنا بأن الإسلام سياسة؟ وهل قول القائل بالتسييس، وقناعته وعلمه أوسع وأصح وأحكم من قول ومراد الله؟! وأيهما أحق بالرضا: أن نرضى ما ارتضاه لنا الله ورسوله؟ أم ما لبّست به علينا الجماعات والأحزاب والفِرق والطوائف؟!

من يتتبع سياقات النص القرآني بتدبر سيقتنع بأن الأنبياء عليهم السلام ليسوا طالبي سُلطة، ولا منافسين على رئاسة، ولا طامعين في مُلك، وإلا لتوفرت ذريعة المعارضة لخصومهم، وأمكنهم التصدي لهم ورفع شعار (نحن أحق بالملك منه)، وما كان موقف الرفض للرسالة النبوية إلا لأنها وحي من عندالله. فحاولوا النيل منها بتوجيه الاتهام بالجنون والسحر والشعر لإضعاف موقف النبي والتشكيك فيه.

رضي الله الإسلام دينا مقابل الدنيا. دينا نتقرب به إليه، ونعف بموجبه عن إراقة دم أو إثارة فتنة، ونوقن أننا نحاسب وفق هذا الدين المرتضى، ولم يقل أحد بأن السياسة دِين إلا حين ابتدع الجماعات الإرهابية مقولة (لا إله إلا الله سياسة من أول حرف لآخر حرف) ليتجرأ قائلها على منطوق القرآن، ويزايد على مقام النبوة في محاولة لتدنيس التوحيد والعبادة، بالشرك السياسي والكفر الأيديولوجي، وتزكية أخلاق (قطاع الطرق والمدن والبلاد) ممن يطمحون لما ليس لهم بحق، وليسوا أهله.

ما تمثله الدولة الوطنية اليوم خصوصاً في مملكتنا يؤكد أن الإسلام الذي ارتضاه الله لنا دينا هو الذي وحّد الكيان، وأذهب الفرقة، وجمع الناس على إمام معروف بالخير، ومألوف الزعامة بحكم أن هذا الأمر يمتد لأسلافه وليس طارئاً عليه، والبيعة له عقد ونحن مأمورون بالوفاء بالعقود كما نصت على ذلك الآيات الأول من سورة المائدة.

يمكن أن نلحظ تاريخياً أثر السياسة على الدِّين، فمنذ القرون المفضلة، دخل على الخط موظِفُون للدِّين لخدمة أهداف وغايات مشبوهة فتنامت الفرق والطوائف والفساطيط، و الأحزاب، والتيارات، والحركات، وعوضاً عن أن يكون الإسلام سبباً لوحدة الصف وتوفير الأمن غدا منطلقاً للنزاع والخوف والرهبة من المسلمين.

من اطّلع على مذكرات الرئيس (أوباما) بما تضمنته من احتضانه للربيع العربي سيدرك ما أعنيه بالتوظيف للإسلام السياسي وتجنيده، لتشويه صورة المُقدّس بأيدي أهله، فجماعات الإخوان والتنظيمات المتطرفة ليست النموذج المثالي والمحاكي للديمقراطية، ورموزه خرجوا من تحت عباءة الغرب، ولكنهم سذّج يتعامل معهم تعامله مع (الضبع) يربيه لتخويف وأذية الخلق ولتقديم أبشع الصور عن خاتم الرسالات، وإذا لزم الأمر للتخلص منهم فالمبرر متوفر لاتخاذ قرارات الحروب والمعارك ضد محور الشر.

يُعلِي النص الدِّيني الأصلي مقام الزهد والعفة والكفاف وعدم الاغترار بالدنيا، فكيف يكون التدين فاتح شهية على الدنيا وملذاتها والسلطة والتسلط؟ خصوصاً أن الدِّين ليس في خطر ما دامت له دولة ذات سيادة تحميه، وإنما تكون الخطورة على الدِّين متوقعة وممكنة وواقعة مع الفوضى وانفلات الأمن وغياب الكيان الحافظ للوحدة والتوحيد.

لو كانت السياسة من تكاليف الدِّين لما اقتتل الصحابة، ولتأسست دولة الإسلام مبكراً ضمن منظومة الرعيل الأول ولنجت الأمم والشعوب من الصراعات الدامية طيلة قرون، ويمكننا بإعادة قراءة مرحلة تأسيس النص التأصيل للدولة المدنية لقطع دابر الجماعات المُشلّحة.

كاتب سعودي

Al_ARobai@