-A +A
محمد مفتي
لم تكن قضية الرسوم المسيئة للإسلام التي قامت بنشرها مجلة تشارلي إبدو هي المرة الأولى، فقد سبقتها من قبل محاولات عدة أشهرها ما تم في الدانمارك من عدة سنوات، هذه الحملات لم تتوقف تماماً على الرغم من الغضب الجارف الذي لف عموم العالم الإسلامي من شرقه إلى غربه عند نشرها، وهي أيضاً المحاولات التي يبدو أنها لا تهدف لاستفزاز المسلمين فحسب، بل يبدو أنها تهدف لخلق حالة من الصراع الديني الذي لا يصب في مصلحة أي طرف.

من المؤكد أن هذه الرسوم لن تنال من قدسية النبي الكريم في نفوس المسلمين ولن تنال من سيرته العطرة، فإيماننا العميق بديننا واقتناعنا التام بسنة رسولنا الكريم تدفعنا للتنزه عن التأثر بتلك الحماقات الرعناء، التي إن دلت على شيء فهي تدل على مقدار الجهل الذي يتمتع به من قاموا بتلك الرسوم، فهم لم يعرفوا الرسول عليه الصلاة والسلام، بل ولم يقرأوا حتى سيرته بشفافية وحيادية بعيداً عن التعصب، وكل ما يعرفونه هو مجموعة من الأخبار المجتزأة والمشوهة والخاطئة، التي رسمت في مخيلاتهم فكرة مغلوطة عن الدين الإسلامي وعن نبي الرحمة، ولو عرفوا وتمعنوا في سيرة النبي المشرفة لاتخذوا موقفاً مغايراً لما هم عليه الآن.


ولكن دعونا نعود لأصل المشكلة من جذورها لتحري الأسباب التي دفعت بمثل هؤلاء للتهجم على الدين الإسلامي وعلى رموزه، من الواضح أن السبب في ذلك هو سلوك الجماعات الإسلامية المتطرفة وأخطرها داعش التي تدعي الانتماء للإسلام والإسلام منها بريء، هذه الجماعات استباحت دماء الأبرياء في المشرق والمغرب واعتادت إزهاق أرواحهم دون ذنب، وخلال ارتكابهم لهذه الجرائم قاموا بالاستشهاد بالآيات القرآنية والأحاديث النبوية لتحقيق أهدافهم، وهو الاستشهاد الخاطئ والاستدلال الجاهل الذي سعوا لتوظيفه لربط منهجهم الإرهابي بالدين الإسلامي لتحقيق أهداف دنيوية، وهذا المسلك الخاطئ ساهم -للأسف- في أن يربط الغرب بين الإرهاب وتعاليم الدين الإسلامي نفسه.

على الرغم من أن الرسوم المسيئة تؤلمنا كمسلمين، إلا أن أفضل وسيلة لنصرة النبي عليه الصلاة والسلام وسيرته العطرة هي محاربة التطرف بجميع أنواعه، والاقتداء بالسنة النبوية الكريمة للمساهمة في تصحيح الصورة المغلوطة عن الدين الإسلامي في أذهان الغرب، وأذكر أنني شاهدت قبل فترة فيلماً وثائقياً عن حرب الخليج الثانية، تحدثت فيه المجندة الأمريكية «روز» عن تجربتها عند قدومها للمملكة ضمن قوات التحالف لتحرير الكويت، وقد ذكرت خلاله أنها عند وصولها للمملكة لم تكن تعرف كثيراً عن الإسلام، وعندما بدأت في التعامل مع السعوديين تعجبت من سلوكياتهم الراقية والملهمة، فقد ذكرت -على سبيل المثال- أنها خلال تناولها للطعام معهم كانوا يقولون لها بأدب: يا أختي: عندما نشرع في تناول الطعام نقول باسم الله، وبعد أن ننتهي نقول الحمد لله، وهو ما دعاها للتفكير مراراً في مدى حضارة ورقي هذا الدين الجليل، وقد عقبت المجندة على ذلك بقولها إن ملاحظتها لسلوكيات المسلمين دفعتها في نهاية الأمر لإشهار إسلامها بعدما تشبعت روحها بتعاليم هذا الدين المسالمة والإنسانية، فغيرت اسمها إلى خديجة، واختتمت حديثها «أحمد الله على ذلك».

هذه السلوكيات الراقية والمسالمة هي التي تصنع رصيدنا الحقيقي كمسلمين أمام العالم أجمع، فالعنف لا يولد إلا عنفاً مماثلاً أو حتى أشد منه ضراوة، فإن كنا نريد بالفعل الدفاع عن ديننا ونبينا فعلينا نشر ثقافة الإسلام المعتدل، فإن الله لا يغير ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم، ولا شك لدينا في أن بضعة رسوم حمقاء لن تؤثر في إيماننا وفي مدى قدسيتنا للرسول الكريم، فهو أجلّ وأطهر من ذلك، والمفترض عدم نشر أو تداول هذه الشتائم والرسوم عبر منصات التواصل الاجتماعي فيسمع بها من لم يكن قد سمع بها بعد.

من المؤكد أن الدول الغربية بها الكثير من التناقضات ولا سيما في ما يتعلق بمجال حقوق الإنسان، فالحرية المزعومة لا تتعلق إلا بالإساءة لرموز المسلمين ومقدساتهم فحسب، وبدلاً من الرد على تلك الإساءات من خلال أحداث عنف فردية أو جماعية قد تؤدي في المقابل إلى عنف مماثل، أو -لا قدر الله- لمزيد من ترسيخ المفهوم الخاطئ لدى الغرب عن الإسلام، الأجدى بنا كدول إسلامية توحيد موقف دبلوماسي متماسك لمنع التهكم أو السخرية أو الإساءة لرموزنا ومقدساتنا الإسلامية بكافة الصور والأشكال مستقبلاً.

كاتب سعودي

Prof_Mufti@

dr.mufti@acctecon.com