-A +A
محمد مفتي
الاقتصاد هو العمود والأساس الذي ترتكز عليه سياسات الدول، ومن المستحيل تقريباً فصل السياسة عن الاقتصاد حيث تتميز هذه العلاقة بقدر كبير من التشابك والتداخل والاختلاط، ولطالما أثرت المواقف الاقتصادية على تشكل العلاقات السياسية في كل دولة مع جيرانها أو حتى مع المجتمع الدولي، ويزخر التاريخ بقائمة طويلة من الأمثلة -لا تتسع السطور لسردها- التي توضح طبيعة التداخل بين كل من السياسة والاقتصاد، ولعل العقوبات الاقتصادية التي تفرضها الولايات المتحدة على إيران لمنعها من الاستمرار في برامج التسليح النووي أحد الأمثلة الجلية على ذلك الترابط الوثيق.

ما يهمنا في هذا السياق هو إلقاء الضوء على الموقف التركي المأزوم حالياً، الذي بات يواجه حملات مقاطعة تجارية واقتصادية شعبية -بل ورسمية من قبل بعض الدول- خلال الآونة الأخيرة وعلى نحو متصاعد، وذلك بالتزامن مع التدخلات السياسية التركية المتزايدة في شؤون الدول الأخرى، في مؤشر على تورط الدولة التركية في أكثر من نزاع وعلى أكثر من جبهة، دون أن تأخذ دوائر صنع القرار في تركيا في الاعتبار التداعيات الاقتصادية والاجتماعية على المجتمع التركي لتلك السياسات، والذي يعتبر الضحية الأولى والمباشرة لنزوات الرئيس التركي السياسية.


لقد دفعت السياسة الخارجية التركية العديد من دول العالم لأن تأخذ موقفاً صارماً وموحداً ضد البضائع التركية أدى إلى مقاطعتها أو فرض رسوم جمركية مرتفعة عليها كنوع من معاقبة صانع القرار التركي لحثه على التراجع عن سياساته الاستفزازية، وهو ما فعله الاتحاد الأوروبي وعدد من دول شمال أفريقيا وبعض دول الخليج العربي، وما نشهده حالياً من وعي شعبي ولاسيما من التجار السعوديين بأهمية مقاطعة المنتجات التركية يدل على إدراك عميق من كثير من الفئات بضرورة الوقوف مع الدولة جنباً إلى جنب ضد المارد التركي وأزلامه في المنطقة.

لا شك لدينا في أن تشجيع الدولة لحملات مقاطعة المنتجات التركية لا يعني إطلاقاً التدخل في شؤون التجار والمستوردين، وإنما يهدف لتحقيق هدف أسمى وأشمل يمثل حماية كيان الدولة نفسه والحفاظ عليه، كما أنه من المؤكد أن حملات المقاطعة لا تهدف إلى الإضرار بمصالح الشعب التركي على الإطلاق، فالشعب التركي لا ذنب له في سياسات رئيسه الاستفزازية، ولكن الهدف منها هو تضييق الخناق على الرئيس التركي ليتخلى عن أطماعه التوسعية ويعيد النظر مرة أخرى في سياساته التي أضرت به وبشعبيته وبمكانة دولته، ومن أجل أن يضع مصالح شعبه كأحد أهم أولوياته كما تفعل الدول المعتدلة.

من الملاحظ أن الحس الوطني المتمثل في الاستجابة الشعبية للمقاطعة يدل على رسوخ شعور الانتماء لدى المواطن السعودي، الذي يدرك جيداً مقدار المساندة والدعم اللذين تقدمهما له سلطات بلده، ومن الملاحظ أن فكرة مقاطعة البضائع والمنتجات التركية كانت فكرة شعبية في بدايتها، بدأتها فئات عديدة من المواطنين الواعيين الذين شرعوا في تدشين حملات للتوعية بالسياسات التركية التوسعية عبر العديد من منصات التواصل الاجتماعي، ولتعريفهم بمدى أهمية مقاطعة المنتجات التركية في تغيير الفكر السياسي التركي وبمدى تأثيرها في حمله على تصحيح مساره المستفز، وهي الحملات التي إن دلت على شيء فهى تدل على تمتع العديد من فئات المجتمع السعودي بالوعي بالقضايا المصيرية وبالمؤامرات التي تحاك ضد المملكة، سواء في الوقت الحاضر أو حتى مستقبلاً.

من ناحية أخرى، استجاب الإعلام لتلك الحملات وبدأ بعدها في إطلاق العديد من الحملات التوعوية لتوضيح أهمية هذه المقاطعة على جميع المستويات والأصعدة، ونحن نأمل في أن تتوسع بقية المنابر الإعلامية وتنخرط أكثر في تأييد تلك الحملة الوطنية لمساندة الموقف الرسمي للدولة، وقد انطلقت تلك الحملات في العديد من الدول في آن واحد -وليس في المملكة وحدها- بما يشبه الموقف الموحد المتماسك ضد النفوذ التركي الغاشم المتصاعد، والتي يتعين عليها (الحملات الإعلامية) أن توضح للمواطن أن أي شراكة اقتصادية من أي نوع مع دولة معادية يمثل إضراراً فعلياً بأمن الدولة واستقرارها على المديين القريب والبعيد، ويعني ضمنياً الوقوف ضد أعداء المملكة، وهو الأمر الذي تربأ عن التورط فيه كافة فئات وشرائح المجتمع السعودي، ممن يتمتعون بالوطنية والولاء الكافي.

كاتب سعودي

Prof_Mufti@

dr.mufti@acctecon.com