-A +A
علي بن محمد الرباعي
شهد مجتمعنا حالات ممارسة العنف ضد النساء، وتعد قضية ضرب الزوجة إحدى الإشكالات في العالم، وكم وجهت منظمات حقوقية سهام النقد لأفراد ومجتمعات يقعون في السلوك الأرعن غير السوي ممن يظنون أن الضرب مشرعن علماً بأن النبي عليه الصلاة والسلام لم يضرب زوجة من أمهات المؤمنين.

ربما يضرب البعض الزوجة اعتماداً على فهم مغلوط لآية (واللاتي تخافون نشوزهن فعظوهن واهجروهن في المضاجع واضربوهن)، ولا يخفى علينا تطاول بعض المأزومين على المرأة استناداً على موروث مؤيد عند بعضهم بالنص الديني، علماً أن الإسلام انتشل المرأة من براثن الجهل ومكنها وكرمها بإقرار حقها الشرعي في الإرث والنفقة والوصية والمهر والمعاملات، ولا يمكن لديننا أن يكرّم باليمين ويهين بالشمال.


والأصوليون يذهبون إلى أن صيغة الأمر (افعل) ومنها «اضرب» ليست للوجوب فقط ولا للندب ولا للإباحة، بل تأتي بأكثر من ثلاثين معنى منها (التهديد، الإنذار، التسوية، الاحتياط، التحسير والتلهيف، التحكيم، التعجب، المشورة، التحذير، إرادة الامتثال، التخيير)، كما أن القرائن تصرف الأمر بالضرب عن ظاهره، ومنها (وعاشروهن بالمعروف فإن كرهتموهن فعسى أن تكرهوا شيئاً ويجعل الله فيه خيراً كثيرا)، وقال (الطَّلَاقُ مَرَّتَانِ فَإِمْسَاكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسَانٍ) والضرب ليس من الإحسان.

وللقياس في أصول الفقه علة لا يصح القياس إلا بها ولا بد من ثبوتها في الفرع مثل ما هي ثابتة في الأصل، ويرى الإمام الشاطبي في الموافقات أن الأحكام معللة. فإذا كانت عِلة الأمر بوعظ الزوجة الناشز استصلاحها، وعِلة الهجر في المضجع تخفيف حِدة كبريائها فما هي عِلة الضرب؟ وهل تقبل الزوجة الكارهة زوجها والطامحة للفكاك منه أن تنصاع له وتطيعه بالضرب بعد أن رفضت الاستجابة له بالوعظ والهجر؟ خصوصاً أن أثر الضرب موجب للنفرة منه وكراهيته والحقد عليه، إلا إن كان الضرب للتشفي وفش الغل كما يقال فحينها تنتفي المصلحة الشرعية.

قال الشيخ الطاهر بن عاشور في تفسيره التحرير والتنوير (وفي حمل آثار وأخبار ضرب الزوجات مَحْمَل الإباحة مراعاة لعُرف بعض طبقات المجتمع، أو بعض القبائل، فإنّ الناس متفاوتون في ذلك، ومنهم من لا يعُدّون ضرب المرأة اعتداء، ولا تعدّه النساء أيضاً اعتداء، قال عامر بن الحارث النمري الملقّب بجِرَانِ العَوْد «عمدت لِعَوْدٍ فَالْتَحَيْتُ جِرَانَهُ، ولَلْكَيْسُ أمضي في الأمور وأنجح، خُذا حَذراً يا خُلَّتيَّ فإنّني، رأيتُ جران العَوْد قد كاد يصلح». والعود: البعير، بمعنى: أنّه أخذ جلداً من باطن عنق بعير وعمله سوطا ليضرب به امرأتيه، ويهدّدهما بأنّ السوط جَفّ وصلح لأن يضرب به). وأضاف ابن عاشور (ويجوز أن يكون المخاطب مجموع من يصلح لهذا العمل من ولاة الأمور والأزواج؛ فيتولى كل فريق ما هو من شأنه)، ثم قال: (وبهذا التأويل أخذ عطاء بن أبي رباح إذ قال: «لا يضرب الزوج امرأته ولكن يغضب عليها». قال ابن عربي: هذا من فقه عطاء وفهمه الشريعة ووقوفه على مظانّ الاجتهاد إذ علم أنّ الأمر بالضرب هنا أمر إباحة، ووقف ابن عربي على الكراهة اعتماداً على قول النبي (ولن يضرب خياركم).

والضرب للناشز انتقاما وتشفيا لا يقره الإسلام كونه ضد الانتقام والتشفي وتصفية الحسابات، وهل ستطوّع القسوة زوجة لم يطوعها الوعظ بالكلمة الطيبة، والقرآن لا يحابي جنساً على حساب آخر، ومعيار التفاضل فيه (أيكم أحسن عملا) و(إن أكرمكم عند الله أتقاكم) وحاشا أن تكون آيات الوحي الرباني القائم على العدل والإحسان ذات ميل للنزعة الذكورية كما يظن البعض وليس هناك أدلة تتضافر على ضرب المرأة لا قولية ولا فعلية، وهناك محدثون ذهبوا إلى أن معنى «واضربوهن» ليس على المفهوم الشائع والذائع بأنه الضرب البدني، بل جاء بمعنى «الإعراض والإضراب عن الزوجة».

لن ننكر أن المرأة زوجة وأماً وأختاً وبنتاً وخالة وعمة وجارة تعرضت لقسوة في عقود مضت بحكم الأعراف الاجتماعية، وطبيعة الظروف المعيشية، ولجهلهن بحقوقهن، وأي قانون يصدر لصالحها اليوم هو في الأمر نفسه لصالح الرجل بما يحققه من أدب وبراءة ذمة ولحمايته من ارتكاب ما يوجب حبسه وعقابه.

قال أحد السهارى متأففاً برغم أنه خريج شريعة: هذا زمنهن. قلت: فليكن فالمرأة التي أنجبت وربت المواطنين والمواطنات الشرفاء والشريفات وبنات الأصول لن تدفعهن القوانين والأنظمة الحافظة حقوقهن والمعلية شأنهن للإساءة للزوج ولا التنكر للعشرة بل هي تحتمي بالأنظمة من ضعيف نفس وكثير أذى وبذيء لسان، ولكل قاعدة استثناء وما من عام إلا وخُصص.

بالطبع لم تقع الحضارات الإنسانية عبر التاريخ فيما وقع فيه بعض المتزمتين من سوء التعامل مع النساء والاستهانة بحقوقهن التي أوصى بها النبي عليه السلام في حجة الوداع انطلاقاً من قوله تعالى: (ولهن مثل الذي عليهن بالمعروف).

ومما تحتفظ به ذاكرتي أن إحدى المحطات الإذاعية المهاجرة قبل انفتاح الفضاء أذاعت خبراً عن تجمهر سيدات أمام برلمان عاصمة عربية للتعبير عن رفضهن التصويت على قرار يقضي بمنع ضرب الزوجات ولم تمح السنوات صوت إحداهن وهي تقول (أيش عليكم منا نشاهم يضربونا كما أمرهم الله). و(للنساء في ما يعشقن مذاهب).

كاتب سعودي

Al_ARobai@