-A +A
نجيب يماني
هناك تطور كبير حصل في إبرام العقود التجارية عن طريق وسائل الاتصال وتقنية المعلومات، تحقق اليسر وتجلب المنفعة وتوفّر الوقت والجهد، لذا فمن الواجب توسيع قاعدة الاستفادة منها وليس تحريمها؛ كما قال بذلك أحد الدُعاة الذي انتشر مقطع له على إحدى الفضائيات ووصلني بعنوان (هام جداً جداً لأول مرة أعرف أنه حرام)، وذلك بإجابته لسائلة عن حُكم شراء الذهب عن طريق (الأون لاين): بحيث أحوّل المبلغ من المحل وصاحب المحل يشحن طلبي..

وأجابها بأنه لا يجوز ويحرم هذا النوع من الشراء فلا بُد لمن أراد أن يشتري الذهب بالنقود من شرط واحد وهو (التقايض)، أما أن تدفعي ويرسلوا لك البضاعة ثاني يوم أو بعد أسبوع (فهذا حرام) وهو ما أفتى به السائلة. في تشددٍ ليس له محل في دين الله. ويخالف ما قرّره المجمع الفقهي في منظمة المؤتمر الإسلامي رقم (54/‏63) بشأن إجراء العقود عبر وسائل الاتصال الحديثة بأنه إذا تم التعاقد بين غائبين لا يجمعهما مكان واحد ولا يرى أحدهما الآخر معاينة ولا يسمع كلامه وكانت وسيلة الاتصال بينهما الكتابة أو الرسالة أو الرسول (السفارة) وينطبق ذلك على البرق والتلكس والفاكس وشاشات الحاسب الآلي (الكمبيوتر) ففي هذه الحالة ينعقد العقد عند وصول الإيجاب إلى الموجه إليه وقبوله، كما أنه إذا تم التعاقد بين طرفين في وقت واحد وهما في مكانين متباعدين ينطبق على هذه الحالة الأحكام الأصلية المقرّرة لدى الفقهاء.


وقد ذهب الإمام أحمد ومالك إلى أن العقود تصح بكل ما يدل على مقصودها من قول أو فعل ولا يُشترط لفظ معين في الإيجاب والقبول؛ لأن المقصود هو الدلالة على التراضي وهي حاصلة بالمعاطاة، (المغني) لابن قدامة (٤/‏٤).

وقد ظهر اليوم ما يُسمى بالقبض الحكمي ومن أمثلته شراء الذهب والفضة ببطاقة الائتمان، إذ يُعد التقابض في البدلين متحققاً لأن تسلم البائع قسيمة الدفع الموقعة من حامل البطاقة قبض حكمي لقيمتها كقبض الشيك المصدق الذي أفتى به مجمع الفقه الإسلامي، الدورة التاسعة، بجواز شراء الذهب والفضة به. فالرأي الفقهي يخالف ما أفتى به المُفتي هذه السائلة وحرّم عليها المسألة رغم أن الجواز هو المتسيّد في أغراض التعاقد وجواز التعبير عن الإيجاب والقبول جزئياً أو كلياً بواسطة المراسلة الإلكترونية، ولا يفقد العقد صحته أو قابليته للتنفيذ لمجرد أنه تم بواسطة مراسلة إلكترونية.

كما ذكرت مجلة الاقتصاد الإسلامي أن هناك ندوة عُقدت في جامعة الأزهر أكّد العلماء المشاركون فيها على ضرورة دخول العالم الإسلامي في عالم التجارة الإلكترونية لإتمام الصفقات التجارية، فقد أصبحت واقعاً لا يمكن للمسلمين تجاهله، فالتجارة الإلكترونية تساعد في إتمام الصفقات التجارية دون الحاجة لانتقال الطرفين إلى مكان معين وتوفر المال وتحقق العدل في المعاملة، فما دام العدل والتراضي في التعامل موجود فالتعامل مُباح شرعاً.

لا بد أن يعي من يجلس على مقعد الفتوى أن تغيُّر الفتوى واختلافها حاصل بحسب تغيُّر الأزمنة والأمكنة والأحوال والنيّات والعوائد، وأن الشريعة قائمة ترعى مصالح العباد في المعاش والمعاد وهي عدلٌ كلها ورحمة ومصالح وحكمة. يقول العز بن عبدالسلام في قواعد الأحكام «كل تصرّف تقاعد عن تحصيل مقصود فهو باطل».

إن قبض المال بالطريقة التي قالت بها السائلة هي طريقة محققة شرعاً، ويكون القبض تبعاً للضرورة العصرية، وقد ترك الشرع تحديد كيفية القبض في البيع لعُرف الناس وحسب الضرورة القائمة والتي تُقدر بقدرها.

وكان الزبير بن العوام يأخذ الوديعة من الحجاج والتجار في مكة ويشترطون عليه الاستلام في البصرة فيكتبها لهم يأخذونها من ابنه هناك وهو ما يُعرف بـ(السفتجة) في اصطلاح الفقهاء والحوالة المالية في اصطلاح العصر، وهو ضربٌ من أعمالِ البنوك اليوم، جائز شرعاً.

إن التجارة الإلكترونية أصبحت اليوم في حياةِ الناس من الضروريات التي لا يستغنى عنها أحد بما تقدمه من خدمات جليلة المنافع والتي لها أثر كبير وارتباط فعّال ومباشر في حفظ مصالح الناس واستقرار حياتهم وتثمين اقتصادهم ورفع مستوى معيشتهم وازدهار أحوالهم وتوفير وسائل العيش الآمن والاستقرار وحفظ النفس والمال وما لا يُعد ولا يُحصى من المنافع التي هي في معنى جلب المصالح ودرء المفاسد، وكل هذا في معنى المصالح المُرسلة التي إن كانت في أبواب حفظ النفس والمال ونحوها من مقاصد الشريعة الكبرى فقد أجازها ابن تيمية في فتاواه، فالتحريم والتحليل هنا حكمان شرعيان بيد المشرع سبحانه وتعالى، والأصل في معاملات الناس وعقودهم الإباحة فلا يحرم شيء منها إلا ما جاء الشرع بتحريمه. والفقيه من يقدر على أن يزاوج بين الواقع والواجب.

كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com