-A +A
نجيب يماني
هي الأيام نداولها بين الناس، تمر بنا الأحداث والوقائع مرّ السحاب في السماء.

وتطأ الأحداث جسد الزمان وتختفي لتصبح تاريخاً، بعضها يجري جريان ماء على حصى وبعضها تحفر وجودها حفراً على الصخر فلا تقدر أظافر الزمن على محوها.


تُولد أممٌ وتموتُ أممٌ تتعاقب فصول وتنصرم حقب، ليل يتبعه نهار وشمس يتبعها قمر، وتبقى الأرض ذاكرة تحفظ كل أحداث البشر.

مصائب وكوارث وأحداث وحروب وأوبئة ومجاعات وزلازل وبراكين وحرائق ومحن وهزائم وانكسارات. في عام الرمادة أكل الناس الورق والشجر، وقُتل الكثير من الصحابة في موقعة الحرة. وفي مكة قطع الأكل والشراب عن أهل مكة فماتوا جوعاً، وضرب جبالها والكعبة بالمنجنيق، ومنع الحُجّاج من دخول الحرم والطواف حول الكعبة، وعلى صعيد عرفة شهد الحُجّاج مذبحة عظيمة قام بها إسماعيل العلوي. واعتدى القرامطة على المسجد الحرام وقتلوا 30 ألفا من الحُجّاج وسرقوا الحجر الأسود. وليس ببعيد ما فعله جهيمان وزمرته الباغية في الحرم المكي، كما توقف الحج أربعين مرة عبر التاريخ.

كل هذه الأحداث وغيرها ولم نسمع أحداً قال بأنها من ذنوبنا ومعاصينا، كما يحدث اليوم وما ترمي به وسائل التواصل بأن (وباء الكورونا) الذي عمّ شرّه العالم إنما هو غضب وسخط من الله علينا (أوّلوا قضاء وقدر) من عند أنفسهم، وبأن الوباء الذي أصاب بِشرّه الكافر والمسلم إنما هو عقاب إلهي، لقاء ما يجري من الفساد والخروج عن طاعة الله في تصرّفات الناس وسلوكياتهم، أرسل أحدهم قائلاً (ترى ماذا حدث حتى مُنع الجميع عن الكعبة، ما حدث حتى أخرج الله الجميع من بيته أي ذنوب هذه التي حالت بيننا وبين بيتك يا الله. أيّ عمى أصاب قلوبنا فلم نبصر ذنوبنا حتى نوقف الطواف حول الكعبة...)، وكأني بالذي كتب هذا وغيره قد اطلعوا على غيب الله وقرّروا من تلقاء أنفسهم أنها عقوبة إلهية، نسوا أن (قضاءَ الله وقدره) لا ينبغي لأحد من البشر (التجرُّؤ على تأويله)، لأنه ضلال وتقوّل على الله بغيرِ علم يقول تعالى {قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللّهِ الْكَذِبَ لاَ يُفْلِحُونَ}. وجعلها من الكبائر وقرنها بالشرك به بقوله تعالى {وَأَن تُشْرِكُواْ بِاللّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَانًا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى اللّهِ مَا لاَ تَعْلَمُونَ}. يقول ابن تيمية (إن الشريعة قد رتّبت أحكاماً بالفسوق والخسران وعقوبات بضروب من العذاب في الدنيا والآخرة على مرتكبي الموبقات وأنه يمكن للمرء أن يطلق أحكامه على صنف هؤلاء كأن يقول المرابون خاسرون في الدنيا والآخرة أو أنهم من أهل النار ولكن لا يجرؤ لو عرف زانياً أو مرابياً بعينه أن يُطلق عليه أياً من هذه الأحكام أو يرتب عليه أي عقوبات لوجود موانع شرعية تمنع ذلك كأن يكون قد أحدث توبة أو عمل عملاً صالحاً استحق به المغفرة).

ما نحن فيه الآن (وباء عالمي) اتُخذت حياله إجراءات صارمة لمنع انتشاره للآخرين، يقول نبي الرحمة «لا يورد مريض على مصح»، وأن يفر الإنسان من (المجذوم) فراره من الأسد، وقد رفض رسول الله مصافحة مجذوم بيده من باب تعليم أمته والتشريع لها حتى يقتدي به وتتجنب الأمة دواعي المرض، ويقول نبي الأمة «إذا سمعتم بالطاعون بأرض فلا تقدموا عليه وإذا وقع بأرض وأنتم بها فلا تخرجوا منها»، وهذا ما فعله عمر بن الخطاب في طاعون عمواس، ويؤكد الغزالي (أن الخارج من البلد الذي يقع فيه الوباء لا يخلص غالباً مما استحكم به ولذا فهو يحمل معه الميكروب إلى بلاد أخرى فينقل بذلك العدوى إلى غيره من البشر بسبب خروجه من بلدته المصابة بالوباء)، وقد أصاب ولي أمر الوطن في كل إجراء اتخذه حتى لا يتفشى فينا المرض.

نواجه وباء قاتلاً سريع الانتشار وحفاظاً على الأرواح من باب الضرورات الخمس؛ ومن بينها حفظ النفس كأحد مقاصد الشريعة، تم إغلاق أبواب الحرم ومنع الطواف ووقف التجمعات والمدارس، وهذا من أهداف الإسلام، الكعبة باقية والحرم ينتظر ولكن تقرير العقاب والثواب بهذه الظواهر إنما هو منوط بالله وحده فلا يعلم أحد على وجه اليقين حكمة الله من هذه الكارثة أو تلك، وما نقله القرآن من كوارث حلّت بأقوام نتيجة عصيانهم هي أخبار من الله نتوقف عندها ولا نتجاوزها ولا يصح القياس عليها، فهو تألُّه على الله وتدخُّل في مقتضيات ربوبيته. الله يعاقب بالخير كما يعاقب بالشر ويبتلي المؤمن والكافر بالنعم كما يبتليهم بالنقم {وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً}.

هذه الأرض الطاهرة باقية، وأهَّل لخدمتها وعمارتها والعناية بها من عرف قدرها وأدّى حقّها فكان من واجبه حماية زُوّارها وقاصِديها والحفاظ عليهم بإجراءات وقائية استباقية في دلالةٍ على قيادة واعية وحكيمة. شلمنا الله جميعاً برحمته.

* كاتب سعودي

nyamanie@hotmail.com