-A +A
محمد مفتي
للثقافة معانٍ ودلائل وتعريفات كثيرة تختلف باختلاف الهدف من تحديد مفهومها، غير أن الكثير من تلك التعريفات تدور حول اعتبار الثقافة مرادفاً للمعرفة التراكمية والقدرة على الاحتفاظ بالمعلومات في نسق فكري محدد، يحدد شخصية حاملها وينم عن توجهاته ويكشف عن اهتماماته وميوله، ويطلق على الشخص مثقف على نحو اصطلاحي عندما يمتلك قدراً كبيراً من المعلومات في مجالات شتى، غير أن كل مثقف عادة ما يتخصص في مجال بعينه، وتتوزع معارفه وخبراته الثقافية بين هذا المجال وبين المجالات الفكرية المتقاطعة مع مجاله الثقافي الرئيسي، وغالباً ما يكون المثقف ملماً بالمعلومات العامة في شتى المعارف والعلوم.

لاكتساب صفة الثقافة لا يشترط على المثقف إلمامه بكل صغيرة وكبيرة، فليس ضرورياً أن يعرف كل ما تتناوله وتتطرق إليه جميع المجالات المعرفية، فللعقل البشري إمكاناته مهما بلغ مبلغه من الذكاء وحدة الذاكرة وسرعة البديهة والقدرة الهائلة على حفظ المعلومات واسترجاعها وقت الحاجة، أضف إلى ذلك أنه فوق كل ذي علم عليم، والكمال لله وحده، ولذلك لن يحيط عقل أي بشري بكل المعارف والمعلومات مهما سعى لذلك بكل ما أوتي من قوة وذكاء وعزيمة.


ومن المهم أن نشير إلى أن الثقافة عملية معرفية ممنهجة ومنظمة، بمعنى أنها ليست ملكة تتعلق بمجرد تخزين المعلومات وحفظها، بل هي ملكة ترتبط بالقدرة على القراءة المستمرة ومناقشة الأفكار وتحليلها ونقدها، على ألا يُكوِّن القارئ المثقف رأياً إلا بعد إلمامه بجميع جوانب القضية التي يقرأ عنها، وذلك بعد قراءة ومتابعة كل ما كتب عنها حتى يصل إلى رأي محايد غير منحاز بناءً على قراءة متعمقة وتحليل نقدي لمحتوى ما يقرأه، وبناءً على ذلك لا يمكن أن نطلق على الشخص الذي يكوم بعض المعلومات في رأسه دون قدرة على تحليلها أو نقدها إنسانا مثقفا.

كذلك لا يمكن أن نطلق على الشخص الذي يكتسب ثقافته من أذنيه بأنه شخص مثقف بالفعل، فهذا النموذج من الأشخاص يكتسب ثقافة سماعية تتكون من معلومة هنا وأخرى هناك تصل بالصدفة إلى أذنيه، دون أن يبذل أي جهد أو حتى اهتمام للحصول عليها، ودون التحقق من فحواها وهل هي صادقة أم كاذبة، والشخص المثقف فعلياً عادة ما تكون لديه معلومات «عامة» في موضوعات مختلفة من المفترض الإلمام بها، وعندما يفتقد البعض القدرة على تمحيص المعلومات أو اكتسابها من خلال عملية معرفية متتالية في المقام الأول والأخير، يتم خلالها توظيف مدركاته العقلية وخبراته الحياتية في نموذج متشابك ودقيق، فإنه يمكن أن نطلق على هذا النمط الثقافي حينئذٍ ثقافة عشوائية.

والمثقف العشوائي يهتم بالقشور وبالمعلومات البسيطة والدارجة، ويميل للآراء التي تتوافق مع اعتقاده وميوله بصرف النظر عن مدى صحتها من عدمه، وهذا النوع عادة غير محب للقراءة، كما أن المناقشة المتعمقة تصيبه بالملل والضجر، فهو يكتسب معلوماته على نحو عابر وعشوائي ولا منهجي، كما أنه غالباً ما يكون شخصاً انتقائياً في مصادر معلوماته، ينتقي من المعلومات والآراء ما يعجبه فقط، ولا يسعى لتفنيد الآراء المضادة أو المخالفة، ولهذا نجد حججه تتداعى ببساطة خلال أي مناقشة جادة، رغم المظهر الثقافي البراق الذي يتخفى خلفه، وعادة ما يصل الجدل مع هذه الفئة إلى حائط مسدود.

المثقف العشوائي يميل كثيراً للاستعراض، فنجده في أي محفل يتحدث بثقة عن أي موضوع وكأنه عايش أحداثه بنفسه، وهو يسعى لتأكيد ودعم أفكاره بقوة لا يشوبها أي شك أو ارتياب، ويمثل هذا النوع من الأشخاص خطورة حقيقية على المجتمع، فليس لدى كل شخص المقدرة أو المعرفة الكافية لكشف ادعاءات هذه الفئة أو تمحيص معلوماتها، ولعل خطورتهم تكمن في اجتزائهم للمعلومات واقتطاعها من سياقها، وبناء نتائج مغلوطة نتيجة عدم الإلمام بالإطار العام للقضية التي يتحدثون بشأنها، ويعد هؤلاء الأشخاص بمثابة أبواق تروج لأفكار بعينها، غير أنهم في الكثير من الأحيان قد يتحولون لمعول هدم يبث نوعا من الثقافة المسمومة غير المبنية على أي أسس سواء كانت علمية أو حقيقية.

* كاتب سعودي

Prof_Mufti@

dr.mufti@acctecon.com