يسود بيننا رأي قوي جدا، وهو أننا روحانيون وأن الغرب مادي. فهل هذا الرأي صحيح؟ لنبدأ بتحليل المفردات: نحن، الغرب، روحانيون، ماديون. (نحن) تطلق على المتكلمين، ويراد بهم هنا العرب والمسلمون، لكني سأقتصر على العرب. (الغرب) يراد به المجتمعات الأوربية والأمريكية ذات الطابع الصناعي والرأسمالي. ويدخل ضمنها أحيانا بعض الدول غير الغربية كاليابان وكوريا الجنوبية مثلا، ويكاد يخرج منها أغلب دول شرق أوروبا وأمريكا اللاتينية. فالغرب كما ساد بين المؤرخين هو الغرب الرأسمالي الليبرالي وليس الاشتراكي الشيوعي.
الآن، لننظر بشكل أكثر عمقا للمفهومين (روحاني) و(مادي)، وهما متضادان كما هو واضح. الأخلاق العامة قد تكون روحانية وقد تكون مادية. والروحانية تعني القيم الدينية والإنسانية ومبادئ الشفقة والرحمة والتضامن الاجتماعي والإيمان بالحياة الأخرى وغيرها. أما الأخلاق المادية، فهي التي تستند على قيم القوة والبطش وبقاء الأصلح والتنافس والسوق الحر والإمبريالية والتقنية وانعدام الإيمان بالدين أو بالحياة الأخرى.
لنعد إلى الرأي المتداول (العرب روحانيون، والغرب ماديون). علام يستند هذا الرأي؟ الجواب سهل للغاية: العرب متدينون أو يحكمهم الدين، بينما الغرب تحكمهم المنافع المادية. أما من ناحية أن العرب يحكمهم الدين بشكل شبه شامل فهذا صحيح.. ولكن أي دين؟ هل هو دين القيم السامية أم دين الشكليات والطقوس المجردة؟ لكي نعرف الفرق بين الشكليات والقيم السامية لننظر سريعا في وضع ماليزيا، الدولة الإسلامية التي اعتنت بالقيم.. ولننظر إلى دولة طالبان أو الدولة الإسلامية في العراق والشام (داعش)، وهي من الدول أو الكيانات التي اعتنت بالطقوس الشكلية وأهملت قيم العدالة والمساواة والكرامة. مما لا شك فيه أن ماليزيا تعد نموذجا حضاريا راقيا، أما دولة طالبان فلا حاجة لنا في الحكم عليها فهي تحكم على نفسها من خلال الانتهاكات والمظالم التي تمارسها يوميا.
في أغلب المجتمعات العربية، تسود علاقات قائمة على القوة والواسطة والمصلحة.. وهذه حقيقة لا ينكرها أحد، والمال يعد عاملا جوهريا ينظم ويعيد تنظيم تلك العلاقات بشكل منفرد تقريبا. البطش هو السمة التي يتحلى بها المجتمع العربي في أغلب شرائحه. القوة مذهب من المذاهب التي تغنى بها الشعراء منذ عصر ما قبل الإسلام إلى اليوم. والضعيف فينا لا ناصر له إلا من رحم الله. الأقليات والجماعات الفرعية في المجتمع العربي تعاني الأمرين.
لننظر الآن في حالة الغرب. هل هو مادي؟ الجواب نعم. والرأسمالية واقتصاد السوق يعصفان بالناس ومصائرهم.. لكنهم يقرون بذلك ويبذلون كل جهد للتخلص منه وعلاجه. فلنعد السؤال مرة أخرى: هل الغرب مادي؟ الجواب: نعم.. ولكن «المادية» لا تستغرق كل الأخلاق هناك. بمعنى أن طغيان السوق لم يمنع الناس من ممارسة أهم القيم الروحانية (أو الإنسانية) كالعدالة والحرية والمساواة والتضامن الاجتماعي. وهذه حقيقة لا ينكرها أحد أيضا.
ختاما، إذا فهمنا الروحاني على أنه الإنساني وعلى أنه كل ما يشتمل على قيم الكرامة البشرية، فالغرب روحاني ونحن الماديون. أجل، فعوضا عن قيم العدالة تسود قيم البطش، وعوضا عن الكرامة يسود الطغيان، وعوضا عن النظام تسود الفوضى. وأود أن أبين أني لا أمجد الغرب وأنتقص من العرب، بل أصف ما أراه رأي العين. فيا ليتنا نعيد تصحيح المفاهيم التي تعشعش في عقولنا لكيلا تحجب عنا نور الحق.
هل حقا الغرب مادي ونحن روحانيون؟
14 مايو 2014 - 19:39
|
آخر تحديث 14 مايو 2014 - 19:39
تابع قناة عكاظ على الواتساب