حينما تنساب أغنية «أيظنُّ» بلحنها الهجين ومقاطعها يتداعى الى الذاكرة زمن الطرب الجميل زمن كان فيه المتلقي ينام على زاوية العشق وهو يستمع الى اصوات الكبار تتسلق شرفاته وجدرانه.
هذه الاغنية العاطفية والغارقة في التصوير الرومانسي تعد ذات ابعاد سياسية خفية ولكن لايلمس المتلقي هذه الابعاد على الاطلاق وتشير وقائع قصة هذه الاغنية الى انها وليدة ظروف خاصة منها انها جاءت باقتراح من الرئيس المصري الاسبق جمال عبدالناصر لصديقه الموسيقار محمد عبدالوهاب من أجل تكريس الوحدة بين مصر وسوريا إبان ما كان يسمى بـ«الجمهورية العربية المتحدة» على ان يكون الشاعر سورياً والملحن مصرياً والصوت المؤدي هجين بين هذا وذاك فتم اختيار نص «أيظن» للشاعر الدمشقي الاشقر الجميل نزار قباني الذي سبق ان عمل سفيرا لبلاده سوريا في مصر بين عامي 1945-1948 وان يضع اللحن محمد عبدالوهاب وأن تؤديه نجاة الصغيرة وهي من اصل سوري ونشأت في مصر.
وحينما اختار عبدالوهاب نص «أيظن» لتلحينه كان نزار قد انتقل للعمل سفيرا لبلاده في الصين كانت الخطوة جديدة بالنسبة لنزار اذ كان هذا النص أول نص يلحن له ويغنى وبالنسبة لعبدالوهاب في التعامل مع شعر واحاسيس من نوع اخر شكلا ومضمونا.. جاءت الفكرة متناسبة مع الهدف اذ ان اللحن مصري و النص سوري نزاري والاداء رشحت له نجاة الصغيرة.
كانت خلاصة هذا الهجين تلك الاغنية الاروع (أيظن) في العام 1961 تقريبا ولم يستمع اليها نزار قباني الا بعد عودته للمنطقة العربية قادما من (الصين) وبالطبع تبع «أيظنُّ» اعمال عديدة بين الثلاثي نزار وعبدالوهاب ونجاة مثل (ماذ أقول له) (الى حبيبي - إرجع إلي) و(اسألك الرحيلا) والكثير.
أما ما ميز هذا العمل فكانت الانسيابية الأكثر من رائعة في التنقل الموسيقي بين مذهب وكوبليهات العمل والذي يحتاج الى دراسة متخصصة في قراءة علمية موسيقية من اكاديمي متخصص وتحتاج هذه الدراسة لهذا اللحن الى ست صفحات او باب في كتاب.. حيث ان موسيقار الاجيال بدأ هذا اللحن بمقام (نهاوند) في مذهب القصيدة (ايظن اني لعبة بيديه) وهو نفس المقام الذي اختتم به اللحن بطبيعة الحال في الكوبليه الأخير (ونسيت حقدي كله في لحظة..) بينما استخدم مقام الكرد في الكوبليه الاول (حمل الزهور إلي...) ثم مقام (البيات) في الكوبلية الثاني (حتى فساتيني التي..) حيث (رقّص) المعنى الكلامي في القصيدة بموسيقاه الأمر الذي يدلل على نجاح عبدالوهاب بشكل كبير في التصوير التعبيري للنص في هذا اللحن الذي كان تعبيريا في كل قطعة المذهب والكوبليهات الثلاثة اذ لم يلتزم بايقاعات معينة الا في الكوبليه الملحن بياتي (حتى فساتيني...) الذي ظهر فيه الايقاع (4/4) ميزان عادي والذي يسمى ايضا (مصمودي صغير) اما بقية اللحن فهو غير ملزم بايقاعات اي هو لحن بإيقاع خفي.
كما ان النص يُعتبر مواصلة لإبداع نزار في الصور الشعرية الجادة وفي نفس الوقت العبثية في العلاقة بين اثنين وهو ما سألت فيه أو عنه إبنة نزار الكبرى (هدباء) خلال زيارتها مؤخرا الى جدة.
هذا هو ابي الرائع ابدا في شعره واحاسيسه وابداعه مع الكلمة وتصوير الحالات العاطفية لكني اؤكد لك انه ليس كما يصور نفسه (دونجواناً) في اشعاره وابداعه إنه ينام في العاشرة ليلا اذا لم يكن في التاسعة ليستيقظ في السادسة صباحا للتعامل مع صحف العالم واخباره في مكتبه الخاص بالمنزل.. هذا هو ابي!! رحمه الله.
الملحن مصري والشاعر سوري بطلب من عبدالناصر
«أيظنُّ» أغنية ترتدي عباءة السياسة
31 أغسطس 2006 - 22:10
|
آخر تحديث 31 أغسطس 2006 - 22:10
«أيظنُّ» أغنية ترتدي عباءة السياسة
تابع قناة عكاظ على الواتساب
علي فقندش (جدة)تصوير: راشد السعدي