هذا الكتاب يحتل محطات في رحلة العمر وقد جاء تحت عنوان رئيسي هو «دبلوماسي من طيبة» ومؤلفه هو وزير الدولة للشؤون الخارجية الدكتور نزار عبيد مدني، وجاء مفتتح الكتاب ببيتين من الشعر لوالد المؤلف الشاعر الراحل عبيد مدني:
هذا إنتاج تجاري
فيما بلوت من الحياة
سجلتهن خواطر
للذكريات وللغطات
ويقول نزار مدني في كلمة بعنوان «بين يدي الكتاب»، «لقد تهيبت وترددت كثيرا عندما فكرت في إخراج هذا الكتاب، وتهيبت وترددت أكثر عندما فرغت من كتابته وأصبح جاهزا للنشر، وكان هناك سبب وجيه في نظري على الأقل لمثل ذلك التهيب والتردد فهل تستحق حياتي أن يكتب عنها كتاب؟ أليست مثل حياة غيري من الناس الذين يسيرون في الطريق نفسه ويسلكون السبيل ذاته ويركضون لاهثين لكي يؤمنوا لأنفسهم حياة شريفة كريمة مستقرة وما الجديد الذي يستحق أن يكتب عنه كتاب أو يؤلف عنه مؤلف؟
ويضيف: «ثم من أنا حتى يهتم الناس بحياتي ويتهافتوا على قراءة ما أسرده من ذكريات عن طفولتي وشبابي ودراستي ومسيرتي العملية؟».
«لست بالسياسي العظيم ولا ذي المنصب المرموق الذي إذا نشر مذكراته أو ترجم لحياته أماط اللثام عن أسرار كامنة أو أحداث خطيرة، ولا أنا بالمغامر أو العالم الذي اكتشف مجهولا من حقائق العلم، ولا أنا بالأديب الفذ الذي أحدث تأثيرات ملموسة في التطور الفكري والأدبي في مجتمعه، لست شيئا من ذلك فلم إذن أنشر ذكرياتي وسيرة ذكرياتي..».
بهذه اللغة يستهل نزار عبيد مدني كتابه «دبلوماسي من طيبة محطات من رحلة العمر».
يقسم الكتاب ست محطات:
الأولى: المدينة المنورة.. «الجذور»
الثانية: القاهرة «التحول»
الثالثة: جدة (1) التأسيس
الرابعة: واشنطن «التأهيل»
الخامسة: جدة (2) الانطلاق
السادسة: الرياض «الحصاد»
إضافة إلى ملحق بالصور وفهرس يحتوي أسماء الأماكن والأعلام.
في المحطة الأولى في المدينة المنورة التي تمتد من 1360هـ/1914م إلى 1380هـ/1960م وهي المحطة التي تتشكل البدايات الأولى والخطوات في مشوار الحياة والعمل.
يقول «لقد كان لفقد أمي وأنا في حوالي الثالثة من العمر مغزى خاص في حياتي ومبعث لتساؤلات عديدة طالما طرأت على ذهني وأثارت في أعماقي إشكالات فكرية وعاطفية ونفسية مازلت وحتى هذه المرحلة المتأخرة من العمر لا أجد لها إجابة أو تفسيرا ولا أستطيع منها مخرجا أو فكاكا، تساؤلات من نوع: كيف يمكن أن تصبح حياتي لو مد الله في عمر أمي ما شاء الله من السنين؟ هل كانت شخصيتي ستتغير؟ هل كانت ظروف تربيتي ونشأتي ستختلف؟ هل كان يمكن أن أكون شخصا مختلفا عما أصبحت عليه وأن أسلك دروبا غير التي سلكت؟ وربما زاد في تعقيدات تلك التساؤلات، وأضاف إليها بعدا دراميا ملحوظا أن فقدي لأمي لم يقتصر على الافتقار إلى تلك المشاعر والأحاسيس التي عادة ما تغمر بها الأم أولادها كالحنان والحب والعطف والرعاية والعناية ولم يقتصر على الحرمان من الإنسانة الوحيدة التي تهبك حنان الوجود عندما تحيط بك قسوته والتي تحرضك على فعل كل شيء جميل ليس من أجلها بكل من أجلك أنت وحدك، ولكنه أسند ليشمل عدم الاحتفاظ ولو بصورة ذهنية ملموسة ومحسوسة لشكلها ووجهها ومظهرها وشعرها وقوامها وبشرتها، ولم تكن هناك حتى صورة «فوتوغرافية» لها ربما كنت أستطيع من خلال التأمل فيها أن أتزود وبغيض من تلك المشاعر والأحاسيس يعوض عن مرارة الفقدان وألمه». ويضيف مدني: «تقع المرحلة التي سأتحدث فيها عن المدينة المنورة وعن المدن التي عشتها فيها وعما يمكن أن تسعفني الذاكرة في وصفه من أحداثها من حوالي عام 1360هـ وهو العام الذي ولدت فيه، الموافق لعام 1941م وحتى حوالي عام 1378هـ الموافق لعام 1959م وهو العام الذي حصلت فيه على شهادة الثانوية العامة «كنا نسميها التوجيهية»، حيث غادرت بعدها المدينة وارتحلت للقاهرة لطلب العلم ومن ثم اللهاث في طلب الرزق والسعي وراء لقمة العيش والسير في مناكب الأرض». «هناك عدد غير محدود من سنوات الطفولة قضيتها في مكة المكرمة حينما انتقل الوالد إليها للعمل عضوا في مجلس الشورى، غير أن الذاكرة لا تختزن من أحداث تلك السنوات ما يستحق أن يسجل أو يدون وقد توفيت الوالدة في إحدى تلك السنوات وبالتحديد في عام 1364هـ/1944م ودفنت في مقابر المعلاة في مكة المكرمة».
ويعرج نزار مدني على المحطة الثانية والتي تمتد من 1379هـ/ 1959م، 1384هـ/1964م وهي محطة الدراسة في القاهرة والتي تمثل مرحلة التحولات الشخصية والعربية والإقليمية.
يوم لا ينسى
في هذا الكتاب نجد أنفسنا أمام لغة سردية لأحداث يتداخل فيها ما هو شخصي مع ما هو عام من المدينة المنورة، حيث مسقط الرأس والولادة الأولى والدراسة الأولى والذكريات الأولى، وحيث العائلة التي كان لها ولازالت مكانة مميزة وعالية في المجتمع المدني، ولما لعائلة المدني من حضور اجتماعي وثقافي وعلمي ودور الأب عبيد مدني في تربية وتنشئة الابن نزار عبيد مدني وما بين المدينة المنورة والانتقال إلى القاهرة، حيث الصخب السياسي والثقافي والمرحلة المفصلية التي عاشتها مصر والأحداث الكبرى التي مرت بها خاصة والأمة العربية عامة، ودور شخصيات مهمة في تكوين نزار عبيد مدني الفكري والعلمي مثل شخصية الجامعي والعالم المصري الدكتور حامد ربيع، والمناخ الجامعي الذي أسهم في بناء فكر هذا الطالب القادم من المملكة العربية السعودية، كل ذلك أحدث تحولا مهما وحقيقيا في بناء وصقل شخصية نزار عبيد مدني الذي سوف يتجه بعد ذلك في محطته الثالثة إلى الولايات المتحدة الأمريكية. في محطة القاهرة يستذكر نزار عبيد مدني اليوم الأول الذي ذهب فيه إلى الجامعة (جامعة القاهرة) حيث يقول: «كان أول يوم أذهب فيه إلى الجامعة يوما مشهودا لن أنسى ما حييت أحداثه ووقائعه في أعقاب فاصل شيق ومثير من الاستفسار والاستقصاء تبين لي أن المقر الذي تحتله كلية الاقتصاد والعلوم السياسية باعتبارها كلية جديدة هو أحد المباني التابعة لكلية الحقوق في جامعة القاهرة ويطلقون عليه اسم «ملحق»، كما تبين لي أن كليتنا تضم ثلاثة أقسام أو تخصصات هي قسم الإحصاء وقسم الاقتصاد وقسم العلوم السياسية، وأنه بعد السنة الأولى التمهيدية والعامة لجميع الأقسام يبدأ بالتخصص اعتبارا من السنة الثانية بعد أن عبرت المدخل الرئيسي للجامعة الذي تعلوه الساعة الشهيرة، ويضيف: «غمرني في البداية إحساس طاغ بالرجولة وبأني لم أعد ذلك التلميذ في المدرسة الناصرية في المدينة المنورة الذي لم يكن عالمه الخاص يتجاوز المسافة من «سوق القماشة» إلى «باب المجيدي» ولا حتى ذلك الطالب الذي كان يظن أن مجرد انتقاله إلى «مدرسة طيبة الثانوية» سوف يمنحه الصك المنشود نحو الحرية والاستقلال، لقد شب الفتى عن الطوق وبات رجلا بكل ما يحمله مفهوم الرجولة من مضامين، باختصار لقد أصبح طالبا جامعيا».
من المدينة إلى القاهرة
في محطة القاهرة التي بدأت بلحظة الوصول في صيف عام 1380هـ الموافق لعام 1960م والحصول على شهادة البكالوريوس في تخصص العلوم السياسية لم يصاحب وصولي إلى القاهرة وبدء المرحلة الانتقالية التي شهدت تحول الطالب نزار عبيد مدني ــ كما يقول ــ من «تلميذ ثانوي إلى طالب جامعي ومن صبي مراهق إلى فتى يافع في مقتبل الشباب ومن العيش في كنف الوطن ودفئه إلى الحياة في خارج الوطن وتحدياتها ومن اعتماد مطلق على الأسرة وعدم شعور بالمسؤولية إلى نوع من الاستقلالية المحدودة والاعتماد على الذات..».
يتذكر نزار عبيد مدني القاهرة أو «أم الدنيا» و «أرض الكنانة» و«أحلى اسم في الوجود» والأهرامات وأبو الهول والموقع الحضاري والتاريخي، وأبرز الشخصيات الثقافية والفكرية والفنية والسياسية.
مرحلة التأسيس
في المحطة الثالثة جدة (1) وهي مرحلة التأسيس وتمتد من عام 1385هـ/1965م، 1388هـ/ 1968م يقول عنها نزار عبيد مدني:
«فور وصولي إلى أرض الوطن قادما من القاهرة بعد أن أنهيت دراستي الجامعية بها توجهت إلى المدينة المنورة، حيث أمضيت فيها مدة قصيرة من الزمن للسلام على الوالد والأهل وأخذ قسط من الراحلة الاستجمام استعدادا لبدء خوض معركة المستقبل، معركة الحياة العملية الجديدة بكل ما تعنيه من تحديات وما تتضمنه من مسارات ومنعرجات».
لم ينتبني أي تردد ولم يعترني أي غموض أو يساورني أي شك حول ماهية هذه الحياة المستقبلية ونوعها وطبيعتها، فالرؤية أمامي كانت واضحة تمام الوضوح، والهدف كان محددا ومحسوما منذ أمد طويل وهو العمل في السلك الدبلوماسي، كانت خطتي في بداية الأمر تقوم على أساس السعي بشتى الوسائل الممكنة إلى إكمال الدراسات العليا في الخارج والحصول على شهادتي الماجستير والدكتوراه في العلوم السياسية أو العلاقات الدولية قبل الالتحاق بوزارة الخارجية، وبعد التفكير والاستقصاء تبين لي أن أفضل الوسائل لتحقيق هذا الهدف هو العمل في الجامعة كمعيد، لم تكن هناك في تلك الأيام سوى جامعة واحدة في المملكة هي «جامعة الملك سعود» التي سميت فيما بعد «جامعة الرياض» ثم أعيد تسميتها «جامعة الملك سعود»، حيث إن المعيدين يبتعثون للخارج لدراسة الدكتوراه بعد قضاء مدة محددة في الجامعة.
في المحطة الرابعة وهي محطة واشنطن أو التأهيل والتي تمتد من 1388هـ/ 1968م إلى 1398هـ/1978م نزار عبيد مدني عن لحظة مغادرته جدة.. ويقول:
«بتاريخ 20/11/1387هـ غادرت جدة متوجها إلى واشنطن، ويضيء نزار مدني هذه المحطة قائلا: «أن يجد دبلوماسي ناشئ نفسه في مقتبل حياته العملية في بلد مثل أمريكا وفي عاصمة مثل واشنطن تلك لعمري ميزة عظيمة وفرصة كبيرة من شأنها أن تدر عليه فوائد جمة، وأن تؤدي إلى تطوير تجربته العملية وتحسين مستقبله الوظيفي إذا أحسن استغلال الفرصة وأفلح في الاستفادة من المناسبة، العمل الدبلوماسي في واشنطن بحق هو مدرسة ومتعة في آن أينما نظرت إليه وكيفما تعاملت معه، فالشاب الذي يرغب في الدراسة الأكاديمية لما بعد مرحلة البكالوريوس في غير مواعيد بالبعثة لديه خمس جامعات للالتحاق بإحداها وهي جامعة «جورج تاون» وجامعة «جورج واشنطن» والجامعة الأمريكية والجامعة الكاثولوليكية وجامعة هاورد، إضافة إلى كلية الدراسات الدولية المتقدمة (SAIS) التابعة لجامعة جونز هوبكنز والتي تقع في مدينة «بالتميور بولاية ماريلاند»، هذا عدا الجامعات القريبة من واشنطن والواقعة في ولايتي «فيرجينيا» و «مريلاند».
ويضيف: «لم تكن السنوات العشر التي عملت فيها في السفارة في واشنطن متشابهة في نوعية المسؤوليات أو لطبيعتها وتصنيفاتها الإدارية والسياسية، ولهذا السبب أجد من المناسب أن أقسم تلك السنوات إلى ثلاثة أقسام يبدأ القسم الأولى منذ وصولي إلى واشنطن في عام 1968م إلى عام 1971م، والقسم الثاني من عام 1971م إلى نهاية عام 1975م، في حين يبدأ القسم الثالث من عام 1975م حين مغادرتي واشنطن في عام 1978م».
في المحطة الخامسة وهي محطة جدة (2) محطة الانطلاق التي تبدأ من عام 1398هـ/1978م إلى عام 1404هـ/1984م، وهي المحطة التي دخل فيها مبنى وزارة الخارجية ومنذ اليوم الأولى بعد عودته من الخارج ــ كما يقول ــ لم يكن الوزير موجودا في مكتبه وقد لاحظت ــ كما يقول ــ نزار عبيد مدني أنه تم تخصيص مكتب لي في الغرفة الكبيرة التي كانت تقع بين مكتبي الوزير ووكيل الوزارة الشيخ عبد العزيز الثنيان، انتصبت في وسط تلك الغرفة الفسيحة ثلاثة مكاتب كانت مخصصة لكل من حسان الشواف مدير عام مكتب الوزير والأستاذ حمد الفارس المسؤول عن البرقيات والشؤون الخاصة في مكتب الوزير وخصص المكتب الثالث لي.. بعد انتظام دام يومين أو ثلاثة عاد الأمير سعود إلى جدة لم يكن المقام يستقر بي على مكتبي في صباح اليوم التالي، حيث أبلغت بأن سمو الوزير يرغب في مقابلتي، شعرت في البداية بشيء من الهيبة والرهبة وأنا أدلف بخطى متثاقلة إلى داخل مكتب الوزير وهو نفس المكتب الذي قيل لي إن الملك فيصل ــ يرحمه الله ــ كان يستعمله في الأوقات التي كان يداوم فيها في الوزارة باعتباره وزير الخارجية. بيد أن شعوري بأهمية المقابلة مع الأمير سعود والتي كنت أتلهف عليها وأتطلع إليها باعتبار أنني سأتمكن من خلالها من معرفة المهمات التي ستسند لي في إطار عملي بمكتب الوزير، إضافة إلى حسن الاستقبال والبشاشة والتواضع الجم الذي لمسته من سموه في بداية المقابلة بدد كثيرا من تلك الرهبة والهيبة، وأحل مكانها شعورا خافتا في البداية ومتناميا بعد ذلك بالاطمئنان والارتياح. كان الأمير سعود كعادته التي ميزت شخصيته وتعامله مع الموظفين والتي ألفتها منذ لك الحين واضحا في رؤيته دقيقا في عباراته موجزا في كلامه سلسا في عرضه حدد المهمات التي يرغب مني القيام بها. ومرورا بالمحطة الأخيرة وهي محطة الحصاد وهي محطة عضويته في مجلس الشورى وصولا إلى موقعه الآن وفي هذه المحطة يقول بعد عضويته في الشورى ورغبة في التقاعد:
«بعد تفكير لم يدم طويلا قررت تنفيذ الفكرة، حيث إنني شعرت أنه من اللائق الحصول على موافقة ومباركة الأمير سعود الفيصل على هذه الخطوة، خاصة أنني كنت حتى ذلك الوقت لا أزال مرتبطا إداريا بوزارة الخارجية، فقد سعيت إلى لقاء سموه لكي أعرض عليه الأمر قبل بدء إجازتي الصيفية التي كنت مزمعا البدء فيها في منزله في جدة، وبعد أن أوضحت له الفكرة ولم يعارضها ولكنه طلب مني تأجيل اتخاذ القرار بشأنها إلى ما بعد عودتي من الإجازة، ويضيف نزار مدني: «وبعد عودتي إلى الرياض من الإجازة هاتفت الأمير سعود.. ثم ذهبت إلى منزله بعد تذكيره باللقاء وكيف أنه فجر القنبلة التي لم تكن تخطر على بال أو تطرأ على خاطر: «لقد استجدت بعض الأمور في وزارة الخارجية مما يستدعي عودتك للعمل فيها لذلك فإنني أعرض عليك منصب مساعد وزير الخارجية بمرتبة وزير وإذا وافقت سأبدأ فورا باتخاذ الإجراءات اللازمة لإتمام الموضوع». في هذا الكتاب «دبلوماسي من طيبة.. محطات في رحلة العمر» لنزار عبيد مدني رحلة في الأمكنة والأزمنة،وسفر في الأفكار والتيارات السياسية والفكرية والاجتماعية وعالم من الذكريات والتحولات من المدينة المنورة ومن جدة إلى القاهرة ومن واشنطن إلى الرياض، رحلة في الذات وذوات الآخرين.