يوم ما، من كان يسير في حارة المظلوم أو الرويس أو حتى حارات البلد عموما لا أحد يتجرأ على الإقتراب منه، أو أن يتعرض له بأذى.
كانت أغلب المشاكل التي تقع يتم حلها من قبل العمدة، وأحيانا من كبار رجال الحارة، نعرف بعضنا جيدا، ونتشارك في همومنا، فلا أحد يسكن هنا ونجهل من يكون.
البداية كانت عبارة عن (صنادق) تتجاور وتتلاصق مع بعضها البعض، وهذا لا يعني ألا بيوت هناك، كانت هناك بعض الدور البسيطة التي كان أصحابها غالبا من التجار.
أما عن مهن الأهالي فمنهم الصياد والحمال والسقا، حارتنا توسعت بمرور الوقت، وامتدت حتى صارت بهذا الاتساع الذي هي عليه الآن، فمن هو الذي لا يعرف حارتنا.
الهنداوية..من أين جاء اسمها؟
فتوات وشوارع
تجولت عبر تلك الشوارع بحثا عمن يأتني بالإجابة، الهنداوية لم تعد مثلما قيل عنها ومثلما ردد مرافقي: كان يحسب لشبابها ألف حساب، شوارع الهنداوية باتت مجرد طرق شبه خاليه في مثل هذا الوقت من المارة، بعض العمال هم وحدهم من يتحرك فيها.
البيت القديم المجاور كان بلا أبواب، وهناك ظلام دامس يعتم الرؤية في غرفه المتعددة.
كان اللافت في مدخل ذلك البيت المهجور كثرة الحقائب على مختلف مقاساتها، الكبير منها والصغير، جميعها فتحت بعنف والتنقيب في محتوياتها، ملابس نسائية وأطفال، أدوات زينه رميت بشكل عشوائي، دفتر ملاحظات، وأشرطة، صور شخصية، الغرفة المجاورة لم يتبين محتوياتها بعكس الغرفة المواجهة حيث كان يسقط عليها قليل من ضوء المدخل المفتوح، أيضا كانت هناك حقيبتان مهشمتان، ويبدو أن بعض العمالة من البنغاليين، استقروا هنا لفترة أو لعلهم يترددون بين الحين والآخر على هذا المكان.
أحد العابرين قال: لعلها خمسة عشر عاما أو تزيد قليلا، وهذا البيت مهجور على هذا الحال، انتزع أحدهم أبواب البيت ونوافذه، ثم بات مردما تلقى بجواره نفايات الحارة، وهناك بعض الوافدين يأتون إليه من حين لآخر، وخصوصا عند الظهيرة، لكن لا أحد يعرف لمن يعود هذا البيت.
أيام الكنداسة
كان حسين يحيى مساوى (100 عام) يخطو متوجها إلى بيته كان للتو خارجا من باب المسجد،قال: الهنداوية لعلها سميت بذلك نسبة لشخص كان اسمه الهنداوي، وله الكثير من الأملاك هنا، على عهدنا كان البعض يعلل سبب التسمية بذلك، وفي تلك الفترة لم تكن الهنداوية سوى مجموعة من الصنادق، لا تبتعد كثيرا عن (مقهى القاهرة) وتصل لغاية حي القريات، بعد ذلك تطورت وأصبحت كبيرة جدا، وقد وفد للسكن في الحي أناس كثيرون، ومن الشخصيات التي كانت بارزة في حي الهنداوية ولازلت أذكرها الحلواني.
مضيفا: كانت بعض العمالة في ذلك الوقت هي من تقطن في تلك الصنادق التي ذكرتها، أما حياة الناس، فقد كانت بسيطة جدا، وكنا نعتمد على البازان الوحيد الذي كانت تشرب منه الهنداوية، بعد ذلك ظهر (السقا) الذي كان يحضر الماء من (الكنداسة)، ولا أذكر أحداثا معينة بارزة تميزت بها الهنداوية، والسبب كما أظن نتيجة لأنها حي شعبي وبسيط، وكان أغلب سكانه مشغولين في البحث عن لقمة العيش.
الصنادق الحمراء
لكن فهد صالح العمري (89 عاما) قال: ليس هناك سبب واضح لتسمية الهـــنداوية بهذا الاسم، عدا أنه كان يوجد هناك مركز للشــرطـــة أطــلق الناس عليه اسم مركز الهنداوي، لماذا لا أدري، وبالفعـــل كانت هناك الصنادق الحمر، وهي بيوت من الصــفـيــح أغـــلــب سكانها من العمال الذين يمتهـنون بعض الحرف أو يعملون في المـيـنــاء أو صيد الســـمك، وكانت الهنداوية ( لها شنة ورنة)، ومما يميزها التقارب والتواصل بين كافة سكانها.
الماء النكد الأول
أما زارع محمود حسين النجار(66 عاما) فيقول: كان هناك مركز للشرطة اسمه الهنداوي، وعرفت الهنداوية بذلك الاسم ومن أشهر الناس الذين أتذكرهم حامد عطية ومحمود أبو صفية ولا أذكر حاليا عدا ذلك.
ويتألم عبدالله عاتق الشعبي (86 عاما) لفقده الكثير من الأحباب ممن كانوا يجاورونه في السكن ويقول: كانت الحياة كل الحياة أيام الهنداوية زمان، كنا مثل الأهل في الفرح نحن مع بعض مثلما في الحزن نحن أيضا مع بعض الآن اختلفت الأمور، وصحيح أننا في نعمة لا يمثلها حال لكن الناس تغيرت كثيرا، والحي عموما لا ينقصه شيء عدا الماء، والذي كثيرا ما ينقطع بالأشهر.
وماتت الخميسية
تمنى مقبول صافي الصافي (86 عاما) لو يتمكن من تجميع أغلب الجيران والأصدقاء القدامى وشباب الهندواية، مثلما كانت أيامه سابقا حيث يقول: لم تكن تخلو البرحة التي تقع أمام بيتي من حضور الحبايب أولئك، كنت في كل مساء خميس أعمل لهم (خميسية) يأتون فيها من كل أحياء جدة وخصوصا شمالها وشرقها، أقيم لهم وليمة على حسابي ونجلس سهارى حتى آخر الليل نسترجع فيها الذكريات، كنت أجمعهم ولا أسمح لأحد منهم بالتخلف عن الحضور، لدرجة أنني كنت أذهب حتى بيوتهم من أجل أن آخذ وعدا وعهـدا بالحضور، والحـقـيـقــة كانوا متجاوبين معي وتفــاعلوا مع هذا اللقاء الأسبوعي، ثم طلب مني بعضـهم تقـــلــيص اللقاء بحيث يكـــون في الشــهــر مرتين، وفعلا تم تقليصــه لكن أمام ارتباطات الكــــثـــيــر منهم وظروفهم الخاصـــــة، استجــبت لــرغــــبــتــهــم بأن يكون مرة في الشهر لكن حتى هذا تلاشى مع الأيام، وانــقـطـعــــنــا عن الـــتــلاقي منذ حوالى أربع سنوات لم أر أحدا منهم وصــارت حتى الاتصالات نادرة، ولا ألوم أحــدا من أولئك، فظروف الحياة تغــــيرت، ولم تعد بالبســاطة التي كانت عليها أيامنا وما عـــدت أعاتب أحدا، خصوصا أن صحتي لم تعد مثلما كانت وأصبحت الحركة بالنســبة لي صعبة.
امرأة عابرة
وفي زاوية داخل الحي كانت امرأة تعبر الطريق قالت: الماء هو ما ينقص الهنداوية يأتي يوما ويغيب شهرا، فأنا من ساكني هذا الحي منذ فترة طويلة، وبت فيه غريبة ولو تسمح لي ظروفي لما بقيت فيه، ولرحلت مثلما رحل الآخرون.
سكانها هجروها وبقيت ذكرياتهم
الهنداوية .. تموت عطشاً
14 مايو 2009 - 21:40
|
آخر تحديث 14 مايو 2009 - 21:40
الهنداوية .. تموت عطشاً
تابع قناة عكاظ على الواتساب
حسين الحجاجي-جدة