حرص الإسلام على صيانة الأعراض والأموال وسد كل أبواب الفتنة والشبهات وجعل لكل جريمة حدها وعقوبتها الرادعة، كما أن هذا الدين لم ينس إكرام الصالح، إلا أن تلك الفئة القليلة من الناس التي انحرفت عن نظام دينها ومجتمعها وزادت جرائمها بألوان مختلفة تبعا لتغيرات المجريات الزمنية، فالبعض من هذه الجرائم أو الكثير منها لا تمتلك حدا صريحا في القرآن أو السنة النبوية، واحتاجت لعقاب وردع جازم، فحل ما يسمى بـ (التعزير) حتى يقف أمام أولئك المنحرفين ويمنعهم، إلا أنه – التعزير- وهو حكم من الأحكام الشرعية، اختلفت طريقته وتغيرت أحكامه وأشكاله تبعا لتلك الجريمة ومشاكلها أو زمنها ومكانها.
من هذا الباب ناقشنا هذه القضية فكانت الحصيلة التالية:
باب واسع
بداية تحدث الباحث الشرعي الدكتور عوض القرني قائلا: إن التعزير حكم شرعي غير محدد يترك تحديده للقاضي بناء على معطيات القضية، فينظر لحال الشخص والأثر المترتب على الجناية، ومدى القصد فيها أو عدمه، وما يتوقع أن يكون من أثر هذا التعزير، فهو من العقوبات المقدرة.. وقد اختلف الفقهاء فيه، فقيل إنه لا تبلغ العقوبة فيه كأدنى الحدود، بمعنى أنها لا تبلغ أقل الحد، وقيل إنه يختلف باختلاف الجناية، ففي كل جناية مقدار حدها والمفترض فيها لما هو دون الحدود، وقيل إن التعزير لا حد له، وهو يترك مفتوحا للقاضي ليقدره، فهو باب واسع في ردع المجرمين ومعاقبة الجاني وهذه الاختلافات الفقهية من حق الحاكم أن يرجح أيا منها. وأضاف التعزير إما أن يكون بعقوبة بدنية أو مالية مقدرة فقد يكون التعزير إما بالسجن أو الجلد أو فوق ذلك أو أدنى، ويمكن أن يكون بعقوبة مالية، كأن يعزر الإنسان بالمال، مبينا أن النبي صلى الله عليه وسلم قد عزر بالمال، وكذلك بعض الخلفاء الراشدين، وما يظهر لي أنه بالإمكان تحديده، لكنه يحتاج لباب واسع، بمعنى أن هذه المسألة تحتاج أن تكون التعازير فيها واسعة، لأن الجنايات التي تكون بالتعزير واسعة، ويمكن حينئذ أن تستفتي قدر الإمكان، ويقدر لكل منها عقوبة وتكون من باب الاجتهاد وللحاكم أو ولي الأمر، إذا رأى من العلماء هذا الأمر ثم أخذ به بعد اجتهادهم.
وشدد الدكتور القرني على أن ظاهرة الجناية قد تكون واحدة، إلا أن الأسباب والقرائن والأحوال والقصد وعدمه تختلف من شخص لآخر، والقانون لا يستطيع أن يفرق هذه التفرقة، إلا الحاكم القاضي. وأضاف ان التعزير باب مفتوح على خلاف الحدود، ومن ذلك كان بعض الخلفاء الراشدين عندما يرون تطاول بعض الناس قد يشددون عليهم بالعقوبة، إلا أن تلك العقوبة تختلف من زمن لآخر، فإذا زاد الناس في أمر وتمادوا فيه زادت العقوبة وإذا قل الناس فيه، فيمكن أن تخفف إذا لم تكن مقصودة.
موضحا أنه يمكن للحكم التعزيري أن يزيد مستشهدا بمثال زاد فيه الحكم التعزيري عن ذي قبل عندما اجتهد العلماء فرأوا أن الحكم لمهرب المخدرات هو حد القتل، وقبل ذلك لم يكن هذا الحد في الخمر، فالتعزير في بعض الآراء الفقهية قد يصل أحيانا إلى القتل.
لا يصل للقتل
وأكد عضو هيئة التدريس بجامعة الملك عبد العزيز الدكتور محمد موسى الشريف أن التعزير عقوبة ليس فيها نص، وإنما مرده لتقدير الحاكم أو من ينوبه، مثل القاضي فينظر القاضي في الشخص الذي جاءه من أجل أن يعاقب لارتكابه أمرا ما، فإن وجده أقل من هذا العقاب عاقبه بشيء يراه رادعا له، أما إذا لم يجده أهلا للعقاب، كأن تكون هذه أول مرة أو ربما هفوة من شاب صغير ارتكبها ولم يردها وليست هي أصلا من الحدود المنصوص فيها لربما عاقبه القاضي بشيء يسير أو قد يعفو عنه مستشهدا بحديث النبي صلى الله عليه وسلم: (أقيلوا ذوي الهيئات عثراتهم)، فذو الهيئات وهم كبار المجتمع لو أخطأ أحدهم أخبرنا النبي صلى الله عليه وسلم، بأنه يسامح وتغفر له هذه الزلة، والسبب عدم وجود حد فيها أو قصاص، فليست من الحدود، فالتعزير إنما هو عقوبة مقدرة من الحاكم بتأديب من أخطأ. وأضاف: نستطيع أن نقول إنها عقوبة تأديبية مشبها ذلك بمدير جاءوا إليه بطالب غش في امتحانه -فالغش كما هو معلوم ليس فيه حد ولا قصاص وليس فيه نوع من هذا- فالمدير هنا مثلا كالقاضي، فقد يعاقب الطالب بإلغاء الامتحان أو قد يعاقبه بالطرد من المدرسة، وقد لا يعاقب هذا الطالب أصلا، فيقول له أنا سامحتك وأنا أعرف أنك طالب جيد فأذهب، بمعنى أن يكون العقاب بما يكون سببا للصلاح، فقد يكون الإصلاح بالطرد من المدرسة أو الحرمان من هذه المادة أو قد يكون بالعفو، فالعقوبات التعزيرية ليس فيها نص معين أو محدد يرجع إليه، وإنما القصد منها التأديب.
وفي رده على سؤال حول إمكانية أن يكون التعزير مستقبلا في قضية معينة محددا كأن يعاقب كل من فعل هذا كذا بكذا قال الدكتور الشريف: العقوبات التعزيرية، مثل المرور، فالحاكم هنا قد أناب القضاة مثلا أو أناب رئيس المرور في تقدير العقوبة لمن قطع الإشارة، فقطع الإشارة ليس فيه حد أو نص أو شيء من هذا، لكن الحاكم هنا قد يصدر عقوبة متنوعة حسب الشخص، فقد يعفى مثلا عن الإنسان الذي لم يقطع الإشارة من قبل، لكن خلاف ذلك الرجل الذي تكرر منه قطع الإشارة عشر مرات، فهذا بحاجة مثلا لسحب الرخصة أو السجن، فهذا تعزير، ومثال آخر للدولة، فالدولة لديها الحق العام والحق الخاص، فالقتل الخطأ له عقوبة محددة ويعاقب الإنسان بها، فلو عفي عنه من أصحاب الدم فالدولة مثلا ترى أن تسجنه ستة أشهر عقوبة له.
وأضاف: إن التعزير لا يصل إلى القتل، وقد علمنا النبي صلى الله عليه وسلم بأنه لن تجلدوا غيري في حدود الله أكثر من عشر جلدات، لذلك وجد الحنابلة أنه لا يجلد أكثر من عشر جلدات للتعزير، فالحاكم مثلا لو رأى أن هذا الرجل وصل له من الفساد حدا والحاكم قد اجتهد فرأى أن هذا الرجل لابد أن يحسم أمره مع هذا الفساد تماما، فهذا لا بأس بقتله إن رأى الحاكم ذلك، لكن الجمهور يرون أن التعزير لا يصل إلى القتل.
وقال إن من ظن أنه بالإمكان تجاوز الأحكام الشرعية، فنبدل بعضها بتعزير أشد، نظرا لكثرة مشاكل الناس حتى نردعهم أمر لا يجوز، لذلك عندما أراد نور الدين رحمه الله تعالى سلطان الدولة الزنكية أن يضرب السراق ضربا شديدا جدا، منعه أحد القضاة، وقال له إن ذلك لا يجوز، لأنه عندما تتجاوز العقوبة المحددة وتظن أن غيرها من التعزير أجود، فهذا خطر كبير على إيمانك، فالله سبحانه وتعالى رتب على السرقة مثلا قطع اليد، فمن جاء واعدم السارق ظنا منه أن عقوبة الإعدام أفضل، فقد ارتكب ذنبا عظيما، لأنه رأى أن غير العقوبة الشرعية أفضل من العقوبة الشرعية، وهذا فيه سوء أدب مع الله سبحانه وتعالى، وفيه سوء ظن أيضا.
أقل من الحد
إلى ذلك تحدث القاضي بمحكمة التمييز بالرياض الدكتور إبراهيم الخضيري، قائلا: هناك قواعد إجمالية في إيجاد حالات التعزير على كل معزر، وهذا في كل وقت وفي كل مكان وفي كل زمان، فالأمر بعيد بأن يصبح التعزير مقررا بنفس العقوبة على كل من ارتكب نفس الجرم، فهذا التعزير يكون مع المصلحة وجودا وعدما ويخضع لتقدير القاضي الشرعي وتقديم الحالة الماثلة والواقعة، مبينا أن حدود الله كما قرر العلماء رحمهم الله بأن التعزير لا يبلغ العقاب فيه كحد من حدود الله، وإنما يكون أقل منه، فإن كانت الجريمة مركبة من زنا وسرقة وتحايل وانتحال للشخصية وانتهاك حرمات، فهذا التركيب يكون سببا للتعزير بالجلد أكثر من حد الزنا أو من حد القذف ونحو ذلك، لافتا إلى أن شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى، قال إن جماعة من أصحاب مالك يرون أن القتل يجزئ تعزيرا، تحقيقا للمصلحة، ودرءا للمفسدة، لأن المجرم إذا لم تندفع جريمته إلا بالقتل قتل.