ظهرت الرايس على مسرح الحياة باسم (الجار) كموقع ارتبط بمدينة المصطفى صلى الله عليه وسلم وميناء في البوابة البحرية للمدينة المنورة ومدينة بدر على ساحل البحر الأحمر، في موقع يقال له البريكة، وقد اشتهر ميناء الجار تاريخيا قبل الإسلام وبعده كأحد موانئ الحجاز حينما كان البحر الأحمر آنذاك يعرف باسم (بحر الجار) على بعد 25 كم غرب مدينة بدر، وترسو فيه السفن من أرض الحبشة ومصر والبحرين والصين، وهي مرفأ الحبشة الخاص الذي يقال له (قراف)، حيث أرسل من تبقى من صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحبشة بعد ظهور دولة الإسلام وعلو شأنها بالمدينة على سفينتين من ملك الحبشة إلى ميناء الجار، وكان على رأس السفينتين عمر بن أميه الضمري في عام الرمادة. وفي القرن الأول هجري ذهب عمر بن الخطاب رضي الله عنه عندما كان خليفة للمسلمين إلى الجار لاستقبال عشرين مركبا مرسلة إليه من واليه عمر بن العاص في مصر، لإغاثة المسلمين في الحجاز، ويومها أمر ببناء قصرين في الجار لحفظ الطعام فيهما وأمر عمر بن الخطاب رضي الله عنه أن يكتب الناس على منازلهم صكوكا لهم من قراطيس، ثم يختم أسفلها فكان رضي الله عنه أول من صك وختم أسفل الصكوك. ويذكر التاريخ أن مدينة الجار قد نبغ منها علماء ورواة حديث، يأتي من أشهرهم سعد بن نوفل الجاري مولى عمر بن الخطاب وعامله على الجار، وسليمان محمد الأسلمي، وعبد الرحمن بن حسن الجاري، وعبد الرحمن بن سعد الجاري، وعبد الله بن سعد بن نوفل، عبد الملك بن الحسن مولى مروان بن الحكم، وعمر بن راشد الجاري القرشي، وعمر بن سعد بن نوفل، وعيسى عبد الرحمن الجاري، ويحيى أحمد المديني، ويحيى محمد عبد الله مهران، وبقي ميناء الجار طيلة عشرة قرون تارة يتوسع وتارة ينكمش متأثرا بالأحداث ومما يدور في مختلف أقطار الدنيا، حتى أنه وبعد القرن العاشر اندثرت هذه المدينة بسبب القلاقل واضطراب الأمن وهجرها أهلها بعد أن كثرت غارات الأعراب عليها وصارت مطمعا للسلب والنهب، وقامت على أنقاضها وعلى غير بعيد منها بلدة الرايس الحديثة التي سميت بذلك نسبة إلى الرأس الأبيض الذي يقع في الجهة الجنوبية الغربية على شاطئ البحر الأحمر. وتبعد عن مدينة بدر بما يقارب 30 كم، فهذه البلدة «الرايس» حديثة النشأة وعماراتها نشأت بعد أن خربت الجار ونزح عنها السكان وزال عنها كل أثر للعمران، خاصة وأنها قد بنيت على شكل أكواخ للحواتين.
يتميز مناخ الرايس أنه مناخ استوائي صحراوي، وتبلغ مساحتها الإجمالية (15 كم2)، ويسكنها قرابة 4 آلاف نسمة، وكان لتطوير التعليم في المملكة أثره على مهنة الصيد وصناعة القوارب التي كانت المهنة الأساسية للسكان، وبنيت منازل الرايس قديما من دور واحد وبعضها كان قد بني من الطين «اللبن» والقليل منها بني بالبلوك والإسمنت، إضافة إلى وجود بعض الأكواخ التي بنيت من جريد النخيل.
مرفأ للسفن
الشريف محمد بن حسين الحارثي باحث تاريخي يقول إن الجار هو ما قرب من المنازل من الساحل، وبتخفيف الراء هو الذي تجيره أن يضام. فيما يحدد الباحث التاريخي عرام (المتوفى في القرن الثالث الهجري) موقع الجار بأنها على شاطئ البحر الأحمر وهي مرفأ للسفن القادمة من الحبشة ومصر والبحرين والصين، ويصفها بأنها قرية كبيرة آهلة، وبها قصور كثيرة، مضيفا إليها جزيرة في البحر مقابلة لها في الساحل وهي مرفأ الحبشة خاصة وهذه الجزيرة تسمى «قراف». ولا يختلف عنه اليعقوبي الذي يصفها بأنها ساحل المدينة وأنها كانت تستقبل مراكب التجار والمراكب التي تحمل الطعام من مصر، ويحددها ياقوت بأنها تقع على ساحل بحر القلزم وأن بينها وبين المدينة يوما وليلة.
البريكة الميناء القديم
وتقع البريكة التي هي ميناء الجار القديم على درجة 30/38 طول شرقا، و40/23 عرضا شمالا، وسبب إطلاق اسم البريكة على الجار لعله يعود إلى وجود البحيرة التي يفيض منها ماء وادي يليل بالجار، فبعد اندثار الجار استمر ارتياد البدو لهذه البحيرة، وأطلقوا عليها أسم «البريكة»، وأما جزيرة قراف فما زالت ماثلة أمام الميناء (خليج البريكة) وتحمل عند العامة اسم «السلجية» بكسر السين المهملة واللام مع تشديدها، وكان حمد الجاسر يرى أن الرايس هي الجار التاريخية، إلا أنه بعد الدراسة والبحث وقيامه بجولة على الموقع عام 1390هـ تأكد له أن الجار هي البريكة الحالية وشاهد آثارها في مرتفع من الأرض يحفه البحر من جهتيه الغربية والشمالية، حيث يظهر رأس بحر ليس بعميق وتمتد البلدة غربا في البحر لظهور بعض أساسات البناء القديم قد طمرتها المياه فشاهد أمكنة المساكن وأكوام الرماد وكسر الزجاج والفخار وبقايا أسس أبنية، وآثار قناة، وأفواه حفر ضيقة.
ومن آثارها وجود آثار رصيف بحري متآكل ومتداع بفعل الأمواج، وهو مبنى بالحجارة المنقبية البيضاء المنحوتة، وأكوام مرتفعة ظهرت تحتها حجارة منقبية لعلها أسس قصور ومبان، وآثار سور ممتد من البحر في الجنوب الغربي إلى الشمال الغربي ومن الشمال الغربي إلى الشمال الشرقي ومن الشمال الشرقي إلى الجنوب الشرقي كما وجدت شظايا الزجاج الإسلامي متناثرة وملونة، وقطع الفخار الإسلامي القديم.
ويرجح أن لسور مدينة الجار عدة أبواب تغلق مساء وتفتح نهارا أحدها ناحية المدينة المنورة، وأن في الأبواب أبراج للحراسة والمراقبة لأن سوقها كانت عامرة بالتجارة والبيع والشراء.
عام الرمادة
يأتي عام 18 من الهجرة والذي كان في عهد الخليفة عمر بن الخطاب رضي الله عنه من الأعوام المهمة، ففي هذا العام شهدت الجار مجاعة شديدة ومن شدتها سمي ذلك العام عام الرمادة، كتب إلى أمراء الأمصار يستغيثهم لأهل المدينة ومن حولها، فحمل الطعام من الشام ومصر، ومن ذلك ما كتب إلى عمرو بن العاص رضي الله عنه في مصر أن يبعث إليهم الطعام على الإبل، وفي البحر حتى يصل به إلى ساحل الجار، فحمل الطعام إلى القلزم في عشرين مركبا (ثلاثة آلاف إردب) حتى وافى الجار، ولما علم عمر رضي الله عنه قدم إلى الجار ومعه عدد من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم، فنظر السفن ثم وكل من قبض ذلك الطعام، وبنى قصرين وجعلهما للطعام، كما ذكرت بعض المراجع أن الخليفة عمر بن الخطاب وافق عمرو بن العاص على حفر قناة تراجان لتربط النيل بالبحر الأحمر منطلقا إلى الشمال من حصن بابليون بقليل حتى يمر بعين شمس ثم وادي الطميلات إلى موضع القنطرة حتى يتصل بالبحر الأحمر عند مدينة القلزم، وساهمت تلك القناة التي سميت بخليج أمير المؤمنين في نقل المؤن من مصر إلى القلزم ومنه إلى الجار ميناء المدينة. كذلك ساهم ميناء الجار في نقل كسوة الكعبة المشرفة، فالرحالة الفارسي ناصر خسرو قال إنه في عام 439 هـ وكان ذلك في خلافة المستنصر العبيدي قد رافق الكسوة والتي جاءت عن طريق بحر القلزم إلى مكة، وأنهم غادروا مصر في غرة شهر ذي القعدة، وقد ركبوا الباخرة وبعد خمسة عشر يوما وصلوا إلى ميناء الجار على ساحل الحجاز، ومن «الجار» اتجهوا إلى المدينة فوصلوا بعد أربعة أيام.
اندثار مدينة الجار
عاشت الجار في عهود ساد فيها الأمن وتوفرت فيها الخيرات التي تجلب للحجاز من مختلف الأقطار، وطوال تلك الفترة ظلت تعتمد على جيرانها في الطعام والشراب، فكان الطعام يجلب إليها من مصر والماء من الأودية المجاورة، لكن مما ساهم مباشرة في انهيار الجار من جملة أسباب أخرى هو اختلال الأمن في منطقة الجار وهجوم بعض القبائل على المنطقة، والفتك بها، كما حدث في سنة 230هـ عندما هاجمت قبيلة بنو سليم الجار فأوقعوا بناس من بني كنانة فأصابوهم وقتلوا بعضهم، وكان ذلك في خلافة الواثق بالله العباسي ولعدم قدرة ميناء الجار على صد الهجمات والغارات البحرية تفرق سكان الجار، ومع اتخاذ الأيوبيين لينبع ميناء رسميا للمدينة النبوية في عام 621 هـ تضاؤل شأن الجار واختفت كميناء، واستمرت الجار كطريق بري للحاج للتزود بالماء من بحيرتها أو بركتها إلى القرن العاشر الهجري، ولأن ميناء الجار ميناء استيراد، فقد أدى عدم وصول السفن من مصر أو غيرها إلى انهياره.
مكانة تاريخية وسياحية
تعتبر في الوقت الحالي «الرايس» من أجمل المدن التي يقصدها السياح العارفين بمواطن جمالها وشواطئها الذهبية التي تعكس مدى أصالة هذه المنطقة وأهلها، ويسكنها قبائل حرب، وتتواجد بها العديد من الخدمات الضرورية وتبعد «الرايس» عن مدينة ينبع بحوالى 82 كلم.
في الموقع الذي يقع فيه ميناء الجار مساحة شاسعة محاطة بسياج حديدي وبداخلها مبنى خاص بهيئة السياحة وبالقرب من المبنى لوحة كتب عليها أن هذه المنطقة منطقة آثار قديمة.
نقص الخدمات الصحية
وبالرغم من توفر بعض الخدمات في الرايس لكن خالد الصبحي أحد سكانها يطالب الاهتمام أكثر بالمجال الصحي خاصة وأن الرايس لا يوجد فيها سوى مركز صحي وهو يفتقر لعيادة النساء والولادة وعيادة الأسنان حتى تنتهي معاناتهم من مراجعة مستشفى بدر.
ويضيف محمد الصحبي مطالبا بإيجاد مستشفى في الرايس يفي بإحتياجات سكانها.
مركز للدفاع المدني
ويقول عبد الله المستادي أحد الأعيان أن الرايس بحاجة إلى مركز للدفاع المدني فعدم وجوده وبعد أقرب مركز عنهم يتسبب بالكثير من الخسائر في حال نشوب حريق لا سمح الله، فضلا عن افتقارها لخدمات الإنارة والسفلتة، فيما يشير عطا لله الصبحي إلى حاجة الرايس للمرافق السياحية التي تخدم الزوار خاصة أنها تعتبر مدينة جذب سياحي ففي أوقات الإجازات لا تجد مكانا على الكورنيش والمناطق المجاورة له من كثرة الزوار الذين يقصدونها من بدر والمدينة المنورة والقصيم.
وطالب عدد من أهالي مدينة الرايس منهم علي عبد الله ومحمد إبراهيم ويوسف الحربي بتطوير مدينتهم التي يقصدها العديد من السياح على مدار السنة للاستمتاع بأجوائها وشواطئها، وقال عبيد الصبحي إن مدينة الرايس تحتاج إلى العديد من الخدمات مثل المراكز التجارية والفنادق والشقق المفروشة والمستشفيات سواء الحكومية أو الخاصة، إضافة إلى خدمات النظافة في الأحياء والمنح للمواطنين بهدف التوسع العمراني للمدينة.
الجار ميناء الدولة الاسلامية في عهد الخطاب
الــرايــس تنتـظــر المستشفى والمشاريـع السياحــيـة
12 فبراير 2009 - 21:38
|
آخر تحديث 12 فبراير 2009 - 21:38
تابع قناة عكاظ على الواتساب
محمد السلمي - ينبع