هناك تجاوب داخلي للموسيقى، وهناك تجاوب خارجي.. وبالعادة فإن التجاوب الداخلي يسبق الخارجي فيحدث ما نسميه بالطرب. أما إذا سبقَ التجاوبُ الخارجيُّ “ كالتراقص والهز والتمايل “ التجاوبَ الداخلي وهو التذوق والاقتناع الفني ؛ فإن هذا يسمى، برأيي، صخباً و تهريجاً وضجيجاً فارغاً.
إن كثيرا من المسارح الغنائية تكتظ بأمثال هؤلاء الصاخبين الذين يأخذون في الرقص والتمايل مع أول “ دقة “ أو “ نغمة “.. وربما أنهم يتراقصون قبل أن يبدأ المغني وقبل أن تبدأ الفرقة بالعزف. وهذا دليل على “ قلة الذوق “ أي قلة أو ربما انعدام التجاوب الداخلي والاقتناع الفني.
هناك، بالمناسبة، من جنَّدَ علمه وثقافته لمحاربة “ قلة الذوق “، على سبيل المثال ؛ الروائية والمخرجة سوزان سونتاج (1933 – 2004). فقد أعلنت أنها ستحارب قلة الذوق في كل مكان. وهي تعتبر من قلة الذوق و خشونته : التكلفَ والتفاهة والتصنع وعدم “ الالتفات إلى ألم الآخرين “ وهو اسم أحد كتبها، ولها - أيضاً - مقال شهير بعنوان “ ملاحظات حول ظاهرة التكلف “ نشر في كتابها “ ضد التأويل “.
وهناك مظاهر لا تحصى تدل دلالة مباشرة أو غير مباشرة على “ قلة الذوق وخشونته “. نجدها، باستمرار، في حياتنا اليومية والمهنية والأسرية. نجدها في البيت والشارع والمدرسة ؛ التعامل الفظ للأب مع زوجته أو أولاده، والمدرس مع تلامذته أو زملائه، والموظف مع المراجعين، وأخيراً وسائل الإعلام والمسلسلات والبرامج التلفزيونية مع المشاهدين. والعكس صحيح !
إن قلة الذوق ؛ الفظاظة والتكلف والنفاق والتهريج والصخب الفارغ والثرثرة والنميمة... تنطوي على مزاج نفسي غريب يتضمن احتقاراً للآخرين أو تجهيلا لهم، أو إساءة فهم لهم مقصودة أو غير مقصودة. وأتذكر، هنا، عبارة للفيلسوف الألماني كانط يبين فيها كيف أنه تأذى كثيرا من إساءة فهم فلسفته، حيث قال إنه لا يخشى أن تفند آراؤه وتنقض بقدر ما يخشى أن يساء فهمه. وبالمناسبة هناك مفهوم في نظرية النقد الأدبي الحديث يسمى “ إساءة القراءة “ وهو مفهوم مهم جداً لتفعيل النص وتأويله، ولولاه لانغلق النص على ذاته ولانتهت قيمته، وهو – برأيي - ليس دليلاً على قلة الذوق، مادامت له نتائج إيجابية أفضل من عدم إساءة القراءة !
إذا كانت إساءة الفهم والتجهيل عن سابق إصرار وترصد فإنها، هذه المرة، دليل على انعدام الذوق تماماً.. خصوصاً إذا أراد بها المرء أن يدين شخصا ما، أو يؤلب عليه من هو أقوى منه !
*
فلنعدْ إلى الطرب.. وكما قلنا فهناك طرب رزين يسبق فيه التجاوبُ الداخلي (الاقتناع الفني) التجاوبَ الخارجي (الرقص أو الطرق باليد أو ضرب الأقدام على الأرض) وهذه لا تعيب المرء الوقور. وطالما قرأنا أن شخصية من الشخصيات المهمة كانت تنتابه هزةٌ من طربٍ حينما يستمع إلى موسيقى جميلة أو أغنية رائعة.
وينبغي أن نتوقف لحظة عن مفهوم “الاقتناع الفني” الذي لم نعد نلمسه لدى كثير من المتلقين. هذا الاقتناع يصدر عن تصور ورؤية للفن ولأهميته وقيمته ودوره في الحياة. فإذا كانت قيمة الفن والموسيقى في نفوسنا مرذولة منحطة، فإن تذوقنا لها سيكون، من ثم، مرذولاً منحطاً، والعكس صحيح إذا أولينا الفنَّ كل التقدير، ووضعناه الموضعَ اللائقَ به. فحين تسمع مقطوعة موسيقية أو أغنية طربية فإنك تتريث قليلا لتعرف مدى توافقها وانسجامها مع تصوراتك. فإذا كانت أقلَّ رفضتَها، وإذا كانت مساوية لها متسقة معها قبلتَها وطربتَ لها، أما إذا كانت أوسع وأرقى منها فعندها يلزمك أن تعيد النظر في تصوراتك الفنية وفلسفتك الجمالية. فالفنُّ لا يخاطب العاطفة فقط، بل ويخاطب العقل المحض كما يقول برغسون. أي لا بد أن يكون هناك معيار عقلي إضافة إلى المعيار العاطفي.
*
وأذكر لأبي حامد الغزالي كلاما طويلا وجميلا عن الغناء.. وهذا بعض منه “ إنَّ القلوبَ طويتْ فيها جواهرها كما طويت النارُ في الحديد والحجر، ولا سبيل إلى استثارة خفاياها إلا بقوادحِ السماع...السماعُ يثمر حالة في القلب تسمى الوجدَ. ويثمر الوجدُ تحريكَ الأطرافِ كالتصفيق والرقص... وأولُ درجة السماع فهْمُ المسموعِ وتنزيلُه على معنًى يقع للسامع “.
وهذه الجملة الأخيرة تؤيد ضرورةَ الاقتناع الفني، التي تحدثنا عنها قبل قليل، ويؤيد أنَّ الفن يخاطب العقلَ أيضاً، كما ذهب برغسون إلى ذلك. فلا بد من فهم الكلمات لحصول الوجد كما يقول أبو حامد، أي لحصول الطرب.
*
إن من قلة الذوق ألا تفرق بين الطرب الأصيل والطرب المزيف. وتصدر عليهما حكماً واحداً وكأنهما من نفس النوع والمكانة.
*
إنني أربط ربطا وثيقا بين الذوق والفن وكلاهما مرتبط بالجمال.. فالفن مرتبط بالجمال بوصفه مبدعَه، والذوق مرتبط به بوصفه متلقيَه. ولكن المتلقي قد يكون مبدعاً إذا هو ميَّزَ الفنَّ الجميلَ من الفنِّ المزيف، والفنان يبدع إذا عرف كيف يكون متلقيا جيدا، وعرف كيف يؤثر في المتلقين، ويربي فيهم ملكات الذوق الأصيل من خلال استجادة الجميل و نبذ القبيح. ولكننا نرى الفنان، اليوم، أصبح يقدم ما يريده المستمعون والمتلقون، فانحط بفنه وبجماهيره ؛ إنه - في هذه الحالة - ضدَّ الذوقِ وضدَّ الفن !







للتواصل ارسل رسالة نصية sms إلى الرقم 88548 تبدأ بالرمز 118 مسافة ثم الرسالة