يعتبر د. علي الوردي من أبرز علماء الاجتماع العرب الذين أثمرت جهودهم النظرية والتطبيقية عن دراسات قيمة تتخذ من المجتمع العربي بكل تفاصيله موضوعاً لها. وقد تم إهمال الواقع العربي زمناً طويلاً بصفته موضوعاً سوسيولوجياً خصباً، جراء التهافت غير المشروط على النظريات الغربية التي كانت خاضعة لبيئة اجتماعية مغايرة أو كانت نتيجة لاستقراء واقع مختلف عن الواقع العربي المثقل بتاريخه وتراثه وهمومه ومشكلاته. وبين يدي اليوم كتاب من ضمن قائمة الكتب الوردية الشهيرة التي عودنا عليها الوردي ذات الأهمية البالغة في وصف وتشريح وتحليل الواقع العربي والإنسان العربي والأخلاق العربية. وهذا الكتاب هو (الأخلاق) وله عنوان فرعي هو "الضائع من الموارد الخلقية"، والكتاب عبارة عن بحث مطول نشر عام 1958م في مجلة الأبحاث الصادرة عن الجامعة الأمريكية في بيروت. وقد صدر عن دار الوراق 2007م.
نسبية الأخلاق
ينطلق الوردي في كتابه هذا مؤكداً على نسبية الأخلاق وأنها تتغير مع تغير البيئة الاجتماعية, فللبدو أخلاقهم وللحضر أخلاقهم وللعرب بشكل عام أخلاقهم المشتركة وهي تختلف عن أخلاق الأوربيين أو الصينيين. والإقرار بنسبية الأخلاق يستبعد كل إمكانية للمفاضلة بينها.. سوى ما كان منها متصلاً اتصالاً وثيقاً بوجود الإنسان وحياته كإنسان. فلا يحق أن نقر بالعبودية – مثلا – تحت ذريعة القول بنسبية القيم والأخلاق. فهذه مسألة تمس إنسانية الإنسان ويجب على أحرار العالم أن يقفوا ضدها. وقل مثل ذلك في مسائل مشابهة.
ويرتكز الوردي في بحثه هذا على المقارنة بين أخلاق البداوة وأخلاق الحضارة. وقد ركز فيه على المجتمع العراقي, مع بعض الإشارات إلى المجتمع العربي بوصف الأول جزءا من الثاني ومتأثرا به. فالبلاد العربية تقع في أكبر منطقة صحراوية في العالم والبادية متغلغلة في كل بلد عربي من مراكش غربا حتى العراق شرقا. ويبدي الوردي أسفه على هذا الإهمال الواضح من قبل الباحثين والعلماء لما اسماه "أثر الصحراء" في تكوين المجتمع العربي.
القيم البدوية
يقول: "نحن لا نلوم الغربيين إذا أهملوا أثر القيم البدوية في مجتمعاتهم ذلك أن بلادهم خالية من الصحراء تقريبا وليس فيها تراث بدوي يتغلغل في أعماق النفوس منها".
ويرى أننا " لن نستطيع أن نفهم الأخلاق العربية في وضعها الراهن قبل أن ندرس أخلاق أجدادنا البدو وكيف كانوا ينظرون في شؤون الحياة".
كما أن للفرد شخصية تميزه عن غيره فإن لكل مجتمع شخصية يسميها علماء الاجتماع "ثقافة Culture". ومن أجل معرفة "شخصية المجتمع البدوي أو الإنسان البدوي" ينبغي أن ندرس هذا المجتمع دراسة متعمقة ومطولة, وألا نلقي بالاً لانطباعات السياح الغربيين أو ملاحظات المستشرقين العابرة والتي تأثر بها كثير من الباحثين العرب.. فهؤلاء لا يميزون بوضوح بين أخلاق البادية وأخلاق الحاضرة التي قد تتداخل وتتوحد في مجتمع واحد . يتساءل الوردي قائلاً: ما هو الأساس الذي تقوم عليه شخصية المجتمع البدوي؟ ومن أجل الجواب عن هذا السؤال فإنه يعقد مقارنة بين الشخصية البدوية والشخصية المناقضة لها وهي الشخصية الحضرية.. فينتهي إلى أن الشخصية الحضرية تقوم على "الإنتاج" بينما تقوم الشخصية البدوية على "الاستحواذ" وشتان بين أخلاق الإنتاج وأخلاق الاستحواذ. ومما تجب ملاحظته أن منهج المقارنة منهج علمي لا يتضمن أي نوع من المفاضلة وإلا فإنه لن يكون علمياً موضوعياً.
شؤون الإنتاج
إن الفرد الحضري يصعب عليه أن يعيش من غير مهنة أو حرفة أو أي نوع من الإنتاج سواء أكان ماديا أو فكريا. وكلما برع الحضري في مهنته ارتفع مستوى معيشته..
\وهنا لا يفوتنا أن نذكر بأن للوضع الاقتصادي أثراً كبيراً في الأخلاق والقيم, وهذا مما لم يفت أيضاً عالما كبيرا كالوردي.
أما البدوي فله شأن آخر فهو يعيش في صحراء لا تعرف من شؤون الإنتاج إلا قليلا. وليس فيها سوى العشب ينبت هنا أو هناك. وقد قال القرآن يخاطب سكان الصحراء (وفي السماء رزقكم وما توعدون)، وفيه إشارة إلى المطر الذي ينبت به العشب. ومشكلة البدو الكبرى – في رأي الوردي – أنهم لا يحتملون اقتسام مواطن العشب, فكل قبيلة تريد "الاستحواذ" على المراعي الخصيبة.. ومن هنا تنشأ النزاعات والحروب بين القبائل. وأخلاق الاستحواذ هذه جعلت البدوي بلا مهنة معينة, بل إنه ينظر بعين الهزء للحضري الذي لا ينتزع معاشه انتزاعا! - وكلمة (مهنة) مشتقة من المهانة كما يلاحظ الوردي.
مقاييس الحضارة
إن مقاييس الحضارة نابعة من المقاييس الأخلاقية والقيمية لكل مجتمع. فالحضري يحتقر حياة البدوي وأخلاقه, ويعد البدو مجرمين سلابين لا يؤمن جانبهم.
وفي المقابل ينظر البدوي للحضري بعين الاحتقار فهو جبان ذليل لا كرامة له.
وفهم هذه العلاقة السلبية رهن بالقسمة الثنائية التي وضعها الوردي وأقصد بها "أخلاق الإنتاج" و"أخلاق الاستحواذ" فهي تفسر الصفات الحسنة أو السيئة التي يتصف بها كل فريق أو ينعت بها الواحد منهم الآخر.
يدرس الوردي بعد ذلك أخلاق أهل المدن ويؤكد على أن كثيراً من السمات الثقافية البدوية والمكونات الأخلاقية للمجتمع البدوي قد تسربت إلى المدينة. فالتطور العمراني والتكنولوجي الذي شهدته المدن العراقية أو العربية في العقود الأخيرة لا يعني بحال من الأحوال أنها خالية من أخلاق البداوة .
والنقطة التي تلفت نظر الوردي هي أن البدوي الذي يرتحل للمدينة – بسبب تغير الأوضاع في البلد والتطور الحضاري- يقع في مأزق شديد. فهو مسكون بهواجس الغزو والاستحواذ, والمدينة لا تحتمل أخلاقا كهذه الأخلاق أما الصحراء فتحتملها كما هو معروف. وهنا تصبح الأخلاق المحمودة عند البدو مرذولة في المجتمع الجديد. فلا النهب والسلب مما تعمر به البلدان.