يُقال إن الخليفة العباسي المأمون بن هارون الرشيد كان يحلو له أن يبحر في نهر دجلة ببغداد متخفياً وبعيداً عن الحراسة، وكان من عادته أن يأنس في نزهاته الخاصة بالقاضي الشهير يحيى بن أكثم الذي يسامره ويروي له بعض ما يحفظه من بدائع من الشعر والحكمة، خروجاً من جو السياسة والحكم وإدارة الدولة وترويحاً عن النفس حتى لا تكل وتمل، وذات يوم كان في زورق يتهادى به في نهر دجلة فسمع رجلاً يصيح من على ضفة النهر: أطال الله عمر أمير المؤمنين المأمون بن هارون الرشيد ونعم القاضي.. قاضينا نحن أهالي جِبْلة، فالتفت المأمون إلى قاضي القضاة يحيى بن أكثم وسأله: كيف عرف الرجل بمروري وأنا لم أخبر أحداً به؟ فرد عليه قاضي القضاة: حقاً إنه لشيء عجيب، والأعجب من ذلك يا أمير المؤمنين هو أن الذي يمتدح قاضي جبلة هو نفسه قاضي جبلة؟! فأعجب المأمون بفطنة يحيى بن أكثم الذي عرف الرجل من صوته، وأمر بعزل ذلك القاضي الذي فوجئ هو الآخر أن حيلته للبقاء في عمل القضاء لم تنطلِ على قاضي القضاة!
أقول كما فعل قاضي جِبْلة من احتيال وتزكية للنفس فإن أحد الولاة في عصر من العصور الغابرة بلغه أن جماعة من الناس قرروا تقديم شكوى ضده إلى الحاكم عند زيارته التفقدية لمدينتهم، فسارع الوالي إلى دسّ مجموعة من المقربين للحاكم لامتداحه لديه حتى يسبق وصول المديح شكوى أهالي تلك المدينة، فلما زارهم الحاكم وبرزوا إليه شكوا له حالهم مع واليهم فرد عليهم الحاكم بقوله: ولكن الذي بلغني من الثقاة أنه والٍ عادل عامل صالح! فقال له الشاكون: صدقت أيها الحاكم في ما قلته عن الوالي ولذلك فإننا نرجو منك نقله إلى مدينة أخرى حتى ينعم إخواننا فيها بعدله وعمله وصلاحه! لأننا نؤثر إخواننا على أنفسنا! وهنا أدرك الحاكم أن ما وصله عن ذلك الوالي غير صحيح وأنه هو الذي دس له من يُحسن صورته لديه فأمر بعزله من الولاية!.