(قصاصة من صحيفة الشاهد الكويتية التي أعادت نشر مقال «الفتنة الإسرائيلية»)
(قصاصة من صحيفة الشاهد الكويتية التي أعادت نشر مقال «الفتنة الإسرائيلية»)




وثيقة تنصيب جمال الدين الأفغاني رئيسا للمحفل الماسوني في القاهرة عام 1878
وثيقة تنصيب جمال الدين الأفغاني رئيسا للمحفل الماسوني في القاهرة عام 1878




صورة لآخر احتفالية يهودية لضريح أبو حصيرة في البحيرة 2011
صورة لآخر احتفالية يهودية لضريح أبو حصيرة في البحيرة 2011




وثيقة طلب الأفغاني الانضمام للمحفل الماسوني في القاهرة عام 1875، مذيلة بإسم «جمال الدين الكابلي»
وثيقة طلب الأفغاني الانضمام للمحفل الماسوني في القاهرة عام 1875، مذيلة بإسم «جمال الدين الكابلي»
-A +A
تحقيق: خالد عباس طاشكندي

المستشرقون درسوا العناصر الأكثر تخلفا في الثقافة الإسلامية فأخرجوا لنا «الإخوان»

أهم شخصية فكرية في تاريخ «الإخوان» كان رئيساً للمحفل الماسوني

«حركة أكسفورد» خططت لنشر الماسونية تحت رداء «الصوفية»

«قطب» قضى حياته في الماسونية ثم تحول إلى الإرهاب



خلصنا في الحلقة الماضية إلى أن جماعة الإخوان بقيادة حسن البنا تواطأت منذ نشأتها مع الإنجليز والاستخبارات الأجنبية لإشباع أطماعهم السياسية التي تروم الوصول إلى السلطة ومن ثم تحقيق أحلامهم في إعادة «دولة الخلافة»، واتضح من سياق الأحداث أن هناك مصالح مشتركة جمعت الإخوان مع قوى الاستعمار الأجنبية، فبدا أن الجماعة أجازت لنفسها التعاون مع أجهزة الاستخبارات الأجنبية وعلى رأسهم الإنجليز بحجة أن «الضرورات تبيح المحظورات»، في حين أن الإنجليز وأجهزتهم الاستخباراتية ربما طرقوا مجال التعاون مع جماعة راديكالية كالإخوان تحت ذريعة «الغاية تبرر الوسيلة»، وعلاقة من هذا النوع لا مجال للشك أن كفتها تميل بالكامل تحت سيطرة الاستخبارات البريطانية المعروفة بدهائها وبدورها الكبير وباعها الطويل في تحقيق المطامع والطموحات السياسية لحكومتها عن طريق صناعة العملاء وزرعهم في الدول التي تجني منها مصالح إستراتيجية لتحقيق أهدافها الاستعمارية، وهو الدور الذي نجحت في تنفيذه بعبقرية عبر عشرات النماذج التاريخية، ولكن الأخطر والأبعد من كل هذا، هو أن تكون بعض «قيادات» جماعة الإخوان المؤثرة قد اعتنقت أفكاراً عقائدية مختلة لا علاقة لها بالإسلام من الأساس وإنما قامت بالتخطيط لارتداء عباءة الدين كأداة ووسيلة لتحقيق أجندات صهيونية هدفها تدمير وتخريب العالم العربي والإسلامي، ولا يتجسد سيناريو خبيث من هذا النوع إلا في «الماسونية» التي انتسب لها عدد من قيادات الإخوان في العلن والخفاء، وهذا المبحث هو موضوع هذه الحلقة حول تغلغل «الماسونية» التي تم نقلها إلى «مفاصل صناعة القرار والتخطيط والتنظير الفكري داخل جماعة الإخوان وبين أهم قياداتها».



«الإخوان».. مكيدة الاستعمار ضد الإسلام





الأرجح أن بريطانيا لم تدعم جماعة الإخوان فقط كنوع من التعاون والمنفعة المتبادلة، وإنما خططت لتأسيسها من الصفر لتكون أداة مدمرة لكل مظاهر المدنية والنهضة والتنمية في العالم العربي والإسلامي، وهذا ما سبق أن أكدناه أن الأجهزة الاستخباراتية في الدول العظمى لا تعتمد على معالجات آنية للأحداث، بل تخطط بعمق وتعتمد على إستراتيجيات بعيدة المدى، ومن المراجع الغربية المهمة جدا التي وضحت هذا الواقع وكشفت دور المخابرات البريطانية في نشأة جماعة الإخوان المسلمين وعلاقة قياداتها بأجهزة الاستخبارات الدولية وحركة الماسونية العالمية، هو كتاب «رهينة في قبضة الخميني» الصادر عام 1981 لمؤلفه الكاتب الأمريكي روبرت درفيس، ويروي الكتاب في إطاره الرئيسي الدور الذي بذلته إدارة الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر في التواطؤ مع البريطانيين لتنصيب قائد الثورة الإيرانية الخميني حاكماً على إيران، ويدين عدد من الشخصيات الأمريكية ممن دعموا الخميني وأعوانه من قادة جماعة الإخوان المسلمين.

وطرح في طيات الكتاب ثلاثة أجزاء مهمة عن جماعة الإخوان، أبرزها «الإخوان المسلمون: مكيدة بريطانيا ضد الإسلام»، وكشف فيها درفيس كيف اعتمدت بريطانيا على دعم الطوائف والجماعات الدينية الضالة في الشرق الأوسط بهدف التصدي للأفكار التنويرية والعلمية النهضوية وإحلال الفكر الأصولي المتطرف الذي يرفض الحداثة والعلم والتطور بديلاً عن أي حراك تنويري وحداثي ينشأ في العالم العربي والإسلامي، وبالتالي كانت تستخدم هذه الجماعات لتحطيم كل حراك تنموي يتماشى مع العصر الحديث، مبيناً بأنه لم يكن ممكناً لجماعة الإخوان التواجد حتى اليوم لولا جهود مستشرقي جامعتي أكسفورد وكامبريدج الذين تتبعوا ودرسوا العناصر الأكثر تخلفاً في الثقافة الإسلامية ودونوا ملاحظات عنها بدقة وعناية، وبناء على ذلك نشأت جماعة الإخوان نتيجة التنظيم الصبور من جانب عملاء بريطانيا العظمى في العالم الإسلامي، مثل «ويلفريد سكاوين بلانت» و«أ. ج». براون و«أرنولد تونيبي» و«برتراند راسل»، وأشار مؤلف الكتاب إلى أنه تم الدفع بالرموز الرجعيين وتلميعهم عبر التاريخ لمناهضة الصحوة العقلانية الحقيقية في الدول العربية، موضحاً أنهم درسوا أكبر مؤيدي مبادئ مناهضة العلم وإنكار المبادئ الفلسفية في القرن التاسع وهم «أبو الحسن العشاري»، مؤسس المدرسة العشارية الأصولية في الإسلام، و«أبو حامد الغزالي» في القرن الحادي عشر، الذين كانوا عملاء يعملون بأجر لصالح الطبقة الأرستقراطية في أيام الخلافة والممالك التالية، وذلك باعتبار أنهم سعوا لتحطيم أي توجه عقلاني ناشئ في أعمال عباقرة العلوم الإنسانية في العالم الإسلامي مثل «الفارابي والرازي وابن سينا»، وأكد الكاتب أن الباحثين والمستشرقين البريطانيين درسوا أعمال العشاري والغزالي في التأصيل للأصولية ومد الرجعية والتخلف لتدمير كافة النظريات العقلانية لاستخدامها في التأسيس لجماعات التخلف، التي تجسدت فيما بعد في جماعة «الإخوان» التي تم غرس تخلفها في عالمنا الإسلامي عن طريق نخبة مهيكلة تأخذ صورة منظمة ومنضبطة ولا تهدف سوى خدمة السياسة الإمبريالية البريطانية وتحويل مستعمراتها في الشرق الأوسط إلى العصور الظلامية.



«حركة أكسفورد» وجذور «مَسْوَنَة» الشرق الأوسط



خلال فترة العشرينات من القرن التاسع، أسست النخبة البريطانية ما يسمى بـ«حركة أكسفورد»، وهي خلية تخطيط إستراتيجي بقيادة وتنظيم كل من «جامعة أكسفورد والكنيسة الإنجيلية والكلية الملكية في جامعة لندن»، وخططت هذه الحركة إلى استحداث نوع جديد من البعثات التبشيرية، تتمثل مهمتها في نشر إنجيل محرف ومهيأ لخدمة المصالح السياسية التي أعدتها «حركة أكسفورد» لنشر أفكار تساهم في بسط نفوذ الإمبراطورية البريطانية على الأماكن التي تريد السيطرة عليها حول العالم، ولم تكن إحدى الكنائس هي مظلة هذه الحركة، بل كان «المذهب الأسكتلندي من الماسونية الحرة»، وقد تم تكليف بعثات «حركة أكسفورد» ببناء فروع تابعة للمذهب الأسكتلندي الماسوني في كل أرجاء الإمبراطورية في الخارج.

وعند التعامل مع منطقة الشرق الأوسط (المسلم)، لم تحاول «حركة أكسفورد» رد المسلمين عن دينهم، للدخول في المسيحية، بل حاولوا جعل النظام العقائدي الإسلامي «الصوفي» على وجه التحديد، متوافقاً مع الممارسات الطائفية للمذهب الأسكتلندي الماسوني، والسبب في اختيار الصوفية يعود إلى أن الخطر الأكبر الذي كان يهدد مصالح الإمبراطورية البريطانية في الشرق الأوسط، هو ميول المسلمين التي عززت نمو «العلوم الطبيعية» وهي الأساس الذي يشجع على قيام الممالك القوية، ولذلك بحث واضعو الإستراتيجيات الاستعمارية البريطانية عن تيارات في العالم الإسلامي تتوافق مع مصالح بريطانيا العظمى الرامية لوأد وقتل التنمية والتطور، ووجدوا في المذاهب الصوفية شريكاً إستراتيجياً لهم، لأن لها باعا طويلا في محاربة العلوم التطبيقية وتكفيرها، لذلك شجع البريطانيون انتشارها ومولوا الحملات الدعوية التي يقوم بها الوعاظ الصوفيون، وبعد التحالف مع الصوفية خلال القرن الثامن عشر، لم يحتج البريطانيون إلا لخطوة صغيرة خلال القرن التاسع عشر لرعاية عملية خلق طوائف وأديان زائفة، كأداة لتحقيق سياسة الإمبراطورية ومصالحها، وكان أبرز هؤلاء العملاء لتنفيذ مخطط نشر «الماسونية الحرة» هم جمال الدين الأفغاني وتلميذه محمد عبده ومن بعدهم محمد رشيد رضا ومحب الدين الخطيب، وهم أبرز من تأثر حسن البنا بفكرهم وفقاً لمذكراته، وكانوا النواة الأساس للأفكار والمخططات التي استنسخها البنا ووظفها عملياً لتأسيس ما سمي بـ«الإخوان المسلمون».



«الأفغاني».. الماسوني الغامض





جمال الدين الأفغاني المولود عام 1838 ويعد أحد الأعلام البارزين في مصر والعالم الإسلامي ومن أبرز أعلام الفكر الديني المتجدد، إذ اعتبره البعض أنه من أهم زعماء الإصلاح الديني وتغيير عقلية المسلمين في العصر الحديث، وكان الشيخ محمد عبده من أبرز تلاميذه وتطورت علاقته به حيث اشتركا في «جمعية مصر الفتاة»التي كانت تنادي بالحريات المدنية والسياسية وبالعدل والمساواة بين المواطنين أمام القانون بصرف النظر عن انتماءاتهم الدينية والقومية، كما أقاما سوياً في فرنسا بعد إبعادهما من مصر بسبب خلافات سياسية، وأصدرا هناك مجلة «العروة الوثقى» عام 1884 والممولة من الحكومة الفرنسية وموجهة للدول العربية وتدعو للتضامن الإسلامي والجامعة الإسلامية وتبشر بالتجديد والإصلاح، ولكنها توقفت بعد فترة وجيزة بسبب منع استقبالها في الدول العربية.

وعرف عن الأفغاني في الفترتين التي أقام فيها في مصر ما بين 1871 حتى 1879 بأنه مسلم صوفي وكانت خطبه تلقى رواجاً جماهيرياً، ولكن ظلت كتاباته موضع خلاف من قبل العلماء الدارسين الذين انقسموا إلى قسمين؛ أحدهم يفيد بسنية الأفغاني والآخر يفيد بأنه شيعي، فهو بلا شك شخصية عجيبة بالغة الغموض ومثيرة للجدل في جميع المراجع التي تطرقت إلى حياته وفكره وتاريخه، فلا أحد يعلم تحديداً أين ولد؟، هل كان ذلك في أسعد آباد بالقرب من كابل في أفغانستان أم في أسد آباد في إيران، إذ يقول كارل بروكلمان في كتابه «تاريخ الشعوب الإسلامية» إن الأفغاني نسب نفسه إلى أفغانستان لأسباب سياسية، والقصد من ذلك على الأرجح حتى لا يشك الناس في مذهبه، إضافة إلى لقبه الحقيقي فهو غير معروف، فلديه سلسلة من الألقاب (الأسدي، الأفغاني، الكابلي، الإستانبولي، الرومي، الحسيني، الطوسي.. إلخ)، والحقيقة أن الباحثين لم يصلوا إلى شيء ثابت عن مرحلة نشأته وشبابه في الفترة ما بين 1839 إلى 1869، فهي لا تزال غامضة وموضع خلاف.

ونشط الأفغاني في السياسة والدين وكانت له أفكار مختلطة ومتنوعة وشائكة، وتنقل بها بين عدة دول، من بينها أفغانستان والهند وتركيا ومصر وإيران وروسيا وفرنسا وبريطانيا، أقام في جميع هذه الدول في الفترة ما بين 1869 حتى وفاته في إسطنبول عام 1897، وأجاد عدة لغات بطلاقة بسبب كثرة أسفاره وانتقالاته بين الدول، ومن بينها اللغات الفارسية والتركية والعربية والإنجليزية والفرنسية والروسية، وكان الأفغاني يغير زيَّه مثلما كان يغير لقبه في كل مكان يحل فيه، فهو في إيران يلبس العمامة السوداء التي هي شعار الشيعة، وحين حل في تركيا ومصر لبس العمامة البيضاء، و لبس الطربوش في أوروبا، وفي الحجاز لبس العقال والكوفية.

وأثارت أطروحاته وخطبه الدينية الغريبة والسياسية المناهضة للاستعمار الجدل والمشكلات بين الشعوب والحكام بسبب تأليبه العامة ضد الحاكم، عبر الجمعيات الأهلية والصحف والمؤتمرات الجماهيرية، فكان مصيره الإبعاد دائماً من الدول التي ينتقل إليها، والغريب أنه قرر الذهاب والإقامة في دول الاستعمار التي دأب على مهاجمتها، إذ أقام لعدة سنوات متنقلاً ما بين فرنسا وبريطانيا وروسيا وألمانيا، ثم بعد ذلك غادر إلى إيران وهناك كانت المفاجأة، فقد استقبله الشاه ناصر الدين بحفاوة وتم تعيينه وزيراً للحربية ثم ترقى بعدها ليصبح رئيساً لوزراء إيران، وهو ما عزز الآراء السابقة بأن أصله إيراني وشيعي المذهب، والغريب أنه لم يستمر في رئاسة الوزراء، إذ تم نفيه بسبب تأليبه الإيرانيين ضد الشاه عبر الخطب والمحاضرات التي كان يلقيها في مسجده.

ولكن لا يختلف الباحثون على انتمائه العميق للماسونية في أطروحاته المتقاربة معها في مسألة تقارب الأديان وتوحيدها، فقد انضم للمحفل الماسوني الفرنسي، ثم انضم إلى المحفل الماسوني الأسكتلندي إلى أن تركه بعد كلمة ألقاها في المحفل عاب فيها عليهم عدم التدخل في السياسة، وقال فيها: «كنت أنتظر أن أسمع وأرى في كل مصر غريبة ولكن ما كنت لأتخيل أن الجبن يمكنه أن يدخل من بين أسطوانتي المحافل الماسونية.. إلى أن ينتهى للقول بأن الماسونية هي عزة نفس وشمم واحتقار الحياة في سبيل مقاومة من ظلم، هذا هدف الماسونية الأول ومن أجل هذا انخرطت في مسلكها الشريف»، والمثير في الأمر أنه تقدم بطلب الانضمام للمحفل الماسوني في مصر عام 1875 باسم جمال الدين الكابلي رغم أن لقبه المعروف به في مصر آنذاك هو «الأفغاني»، وهو ما يدل على أنه كان يخشى من معرفة طلابه ومريديه بمسألة انتمائه للمحفل الماسوني، وفي عام 1878 أصبح رئيساً للمحفل الماسوني (لوج كوكب الشرق) في القاهرة.

وكانت «الماسونية» قد انتشرت في أوروبا بعد مرحلة الصراعات بين الكنائس ونشوء اللوثرية البروتستانتية، إذ أعيد بعدها الاعتبار إلى أسفار العهد القديم على حساب أناجيل العهد الجديد، وانتشرت الماسونية انتشاراً كبيراً في أوروبا بسبب أفكارها التي تدعو إلى المحبة والأخوة والإصلاح الديني والمساواة، ووصلت الماسونية إلى العالم الإسلامي عبر الفرنسيين في القرن الثامن عشر، وانتشرت محافلها في مصر، ولكن بخلاف أفكارها البراقة والجاذبة، كانت المحافل الماسونية مركزاً لنشاط استخباراتي ضخم من قبل دول الاستعمار، وكان جمال الدين الأفغاني أحد أبرز الشخصيات الدينية- السياسية التي التحقت بالماسونية، ورغم أنها لم تكن معروفة بأفكارها الخبيثة آنذاك وكانت تعرف بأنها ذات أبعاد إنسانية، ولكن كان الأفغاني لافتاً للانتباه ومثيراً لتساؤلات، فأينما ذهب يجري استقباله وتقديمه للمسؤولين والحكام كواحد من أكبر رجالات عصره، وقد توفرت له المكانة والتمويل، وهيئت له الأسباب لطرح أفكاره ذات الارتباط أو العلاقة المباشرة وغير المباشرة بالماسونية وتلميعها بأسلوب براق، هكذا كان ارتباطه الظاهر بها، أما الخفي فمنها فقد ذكرناه مسبقاً في المقدمة.

أما عن توارث وتناسل الأفكار الماسونية من الأفغاني إلى الإخوان، فالأمر كان واضحا، فالأفغاني أستاذ لمحمد عبده الذي كان استاذاً لمحمد رشيد رضا، والأخير هو أستاذ حسن البنا مؤسس «الإخوان المسلمون»، وهؤلاء هم أبرز موارد الفكر الإخواني، وكانت أفكار جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ستندثر بوفاتيهما، ولكن حال دون ذلك محمد رشيد رضا، بعد أن قام بجمعها من جديد وأعاد إحياءها بزخم أوسع عبر مجلة «المنار» التي كان يحررها بنفسه، مستغلاً الدعم الغربي للأصولية الإسلامية، وكان واضحاً أن البنا استقى من الماسونية التي روج لها الأفغاني فكرة بناء التنظيم، وفقاً لسلسلة طويلة من المراجع، خصوصا التنظيم السري الذي لم يكن يعرفه أحد سوى القادة المقربين، والبنا ومن خلال محاولة الغوص في أطروحاته وأفكاره التي روجها عبر رسائله المطبوعة بعنوان «رسائل الإمام حسن البنا»، ومن خلال مجلة «الإخوان المسلمون» التي أسسها في القاهرة عام 1933 ثم تلتها النذير عام 1938 ثم مجلة الشهاب 1947، وظلت تتوالى من بعدها إصدارات الصحف والمجلات الإخوانية التي ساهمت في انتشار فكر البنا في العالم العربي، وكان واضحاً أنه استنسخ أطروحات الأفغاني التي أشاد بها في مذكراته، خصوصا فكرة تحويل الإسلام ودولة الخلافة إلى جماعة سياسية دينية، مع الفارق الكبير في العلم والمعرفة لصالح الأفغاني بالتأكيد، فالبنا لم يكن عالماً ولا مفكراً يمتلك عقلاً نقدياً منتجاً للأفكار، ولكنه نجح في ترجمة أفكار الأفغاني وتوظيفها في بناء قاعدة جماهيرية صلبة ومتنامية لتحقيق أهدافه.



هل كان «البنا» يهودياً–ماسونياً ارتدى عباءة الدين؟!





بعد أقل من أسبوع على حادثة اغتيال رئيس الوزراء المصري محمود فهمي النقراشي على يد أحد أعضاء التنظيم السري لجماعة الإخوان بسبب إصدار النقراشي قراراً بحل الجماعة ومصادرة ممتلكاتها، في الثامن من ديسمبر 1948 على خلفية سلسلة اغتيالات نفذها التنظيم ضد رموز ورؤوس الدولة المصرية، نشر الأديب المصري الكبير عباس العقاد في جريدة «الأساس» المصرية الصادرة عن حزب السعديين، مقالاً صاخباً بتاريخ 2 يناير من عام 1949، عن نشأة جماعة الإخوان المسلمين وزعيمهم حسن البنا الساعاتي، وتحت عنوان «الفتنة الإسرائيلية»، قال العقاد إن حسن البنا يهودي الأصل، وإن جده مهاجر مغربي أتى إلى مصر هرباً من الحرب العالمية الأولى ليعيش هو وأسرته مع الجماعات اليهودية التي وفرت له ولأسرته العمل والسكن، مستنداً إلى عدة قرائن من بينها أن أسرة البنا استوطنت في محافظة البحيرة المصرية التي تعد أكبر منطقة تجمع لليهود في مصر في ذلك الوقت، ففيها ضريح الحاخام اليهودي يعقوب بن مسعود المعروف بلقب «أبو حصيرة»، الذي عاش في القرن التاسع عشر، ويحج إليه اليهود كل عام، إذ يُقام له مولد سنوي في الفترة بين 26 ديسمبر و2 يناير في معبد يهودي في قرية «ديمتوه» بمحافظة البحيرة، وثابت تاريخياً أن الطائفة اليهودية المصرية كانت تحتفل بهذا المولد قبل عام 1945.

كما أفاد العقاد أن جد حسن البنا كان صوفياً كعادة أغلب يهود العالم العربي في أفريقيا الذين تحولوا إلى الإسلام، وقال إن حسن البنا ووالده وجده جميعهم عملوا في مجال إصلاح الساعات وهي المهنة التي احتكرها اليهود في مصر آنذاك، متسائلاً، عندما نرجع إلى الرجل الذى أنشأ تلك الجماعة فنسأل من هو جده؟، إن أحدا في مصر لا يعرف من هو جده؟ على التحديد، وكل ما يقال عنه إنه من المغرب وإن والده كان «ساعاتي»، والمعروف أن اليهود في المغرب كثيرون، وأن صناعة الساعات من صناعاتهم المألوفة، وإننا هنا في مصر لا نكاد نعرف «ساعاتي» كان يعمل بهذه الصناعة قبل جيل واحد من غير اليهود. وكشف العقاد بحسب ما تم نشره في الصحيفة، أن الاسم الذي دخل به البنا إلى مصر هو حسن أحمد عبدالرحمن ثم أضاف والده لقب «البنا» باعتبار أنها كلما مرتبطة بالماسونية وهي ترجمة لكلمة «Mason» باللغة الإنجليزية وذلك بأمر من الماسون المصريين اليهود حتى يكون تنظيم الماسونية الدولي له فرع عربي، مضيفاً بأن الحي الذي ولد فيه البنا كان يهودياً، ولا يعرف مصرياً عمل فيه غير اليهود.

واعتبر العقاد أن أعمال البنا وجماعته تدعو إلى العجب، وشبهها بالحركات الإسرائيلية الهدامة، وأكد أن الحقائق التي لاشك فيها، هي أن البنا مجهول الأصل مهيب النشأة ويثير الفتنة في بلد إسلامي في وقت انشغال مصر بحرب الصهيونيين، مضيفا بأن حركة حسن البنا تسير على النهج الذى اتبعه دخلاء اليهود والمجوس لهدم الدولة الإسلامية من داخلها بظاهرة من ظواهر الدين.

وحذر أيضاً من تواجد أعضاء جماعة الإخوان في ميدان الحرب في فلسطين آنذاك، قائلاً «إن مشاركة أولئك في الطلائع الفلسطينية يفيد في كسب الثقة، وفى الحصول على السلاح والتدرب على استخدامه وفي أمور أخرى قد تؤجل إلى يوم الوقت المعلوم هنا أو هناك، فأغلب الظن أننا أمام فتنة إسرائيلية في نهجها وأسلوبها، إن لم تكن فتنة إسرائيلية أصيلة في صميم بنيتها».

ولاقى مقال العقاد ردود فعل واسعة في ذلك الوقت، وواجه انتقادات لاذعة من المحسوبين على الجماعة الذين أشاروا إلى أن انتماء العقاد الحزبي لـ«الوفد» المنافس للإخوان دفعه لتوجيه تلك الاتهامات التي اعتبروها كاذبة، دون أن يقدموا دليلاً قاطعاً حول عدم صحة تلك الادعاءات، ولكن كانت جميع الملابسات التاريخية التي سبقتها والأحداث المتسلسلة تؤكد على أن حسن البنا وجماعته لديهم مشروع مشبوه للغاية، فالتنظيم السري للجماعة تفرغ في ذلك الوقت لتنفيذ سلسلة من الاغتيالات وعمليات القتل ضد قيادات في الحكومة المصرية كوسيلة لتحقيق أهدافها السياسية.

ربما لا يهمنا كثيراً ما إذا كان أصل جد حسن البنا يهوديا، فلا ضير في ذلك طالما أسلم من بعده، ولكن السؤال المنطقي في هذه المسألة، هو لماذا يخفي حسن البنا اسم جده ولقب عائلته الحقيقي، فمن الواضح أن البنا ومن قبله والده وأفراد أسرته يخفون هذا الأمر حتى لا يعرف الناس أصلهم، وذات الأمر ينطبق على جمال الدين الأفغاني الذي تخفى تحت عدة ألقاب ولا أحد لديه معلومات موثقة ودقيقة عن أصله، كما أن إضافة لقب «البنا» دون توضيح سبب التسمية يثير العديد من الشكوك، فلو كان هذا اللقب مرتبطا بعمل أحد أجداده في مهنة البناء، لماذا يضيف لقب «الساعاتي» وهي المهنة التي قال بأنه توارثها عن أجداده، ورغم أننا لن نجد إجابة شافية، ولكن إذا نظرنا لتاريخ الإخوان وقسنا نتائج ما قام به حسن البنا وجماعته، لتأكدنا من صهيونية الجماعة وماسونيتها.

وفي هذا السياق، حاولت «عكاظ» البحث عن أصل مقال «الفتنة الإسرائيلية» المنشور في جريدة الأساس، ولكن لم يعد لها أثراً، إذ يحتفظ أرشيف «دار الكتب والوثائق المصرية» في القاهرة بنسخ من الصحيفة التي توقف إصدارها منذ حل حزب الهيئة السعدية بعد ثورة يوليو 1952، ولكن عند الوصول إلى صفحة المقال المذكور وجدنا أنه تم طمس وتم تخريب الصفحة، ويبدو أنه عمل متعمد، كمحاولة بائسة لطمس الحقيقة، ويدل على أن المقال كان له أثر كبير في نفوس الجماعة، لدرجة أن الإخوان حاولوا اغتيال العقاد بعد نشر المقال المذكور، وذكرت تفاصيل التهديد ومحاولة الاغتيال في كتاب محمد الجبلاوي «مع العقاد في ظل العقيدة الوطنية»، وبين فيه أن العقاد تلقى خطابات تهديد ووعيد يقولون فيها «قذفت القاذفة» وهددوه بالقتل إن لم يتوقف عن الهجوم على الجماعة في الصحف، ولكنه لم يتوقف، فوضعوا متفجرات أمام منزله، وقام أحد أفراد الجماعة بالاتصال على هاتف المنزل الذي كان بجوار النافذة، فلما رد على الهاتف، أطلقت عليه رصاصة ولكنها لم تصبه، ومع ذلك لم يكترث العقاد بهذه التهديدات ولم يبلغ عنها، ولكن الداخلية المصرية كشفت لاحقاً قوائم أسماء لبعض الشخصيات المهمة التي كانت جماعة الإخوان تخطط لاغتيالها، وكان اسم العقاد ضمن القائمة، فأرسلت الحكومة حرساً لازمه لعدة أشهر.



المرشد القادم من خارج الجماعة



خلال مرحلة حل جماعة الإخوان وفقدان السيطرة على أعضاء التنظيم السري، وقيامهم باغتيال النقراشي باشا رئيس الوزراء، حاول البنا إيجاد مخرج مع الحكومة المصرية وسلطة القصر، فخرج ببيان شهير، كفر فيه من خطط وقام بعملية الاغتيال، وقال عنهم «ليسوا إخواناً وليسوا مسلمين»، ولكن مع ذلك لم تنجح محاولاته في امتصاص غضب السلطات، ثم وقعت حادثة اغتياله في فبراير 1949، وكان المتوقع أنها ضربة قاصمة ستقضي على التنظيم وتشتته، لعدم وجود بدائل قوية تلم شتات الجماعة في ظل تفاقم الخلافات والانقسامات، كما أن أي خيارات لتنصيب بديل من أعضاء التنظيم كانت ستفضي إلى نزاعات، وهذا بالإضافة إلى أن حسن البنا كان شخصية بالغة التفرد في قراراته وإدارته للتنظيم، ولم يمهد لتجهيز بديل له، لدرجة أنه على الرغم من أن الشيخ أحمد حسن الباقوري كان وكيلاً للمرشد، إلا أنه لم يكن يعلم شيئاً عن التنظيم الخاص أو الجهاز السري وما يدور فيه، وعندما افتضح أمر التنظيم السري بعد «حادثة السيارة الجيب» عام 1948، استاء الشيخ الباقوري كثيراً من البنا، لأنه لم يبلغه بأي شيء عن هذا التنظيم، فالمرشد الأول لم يكن يسمح لأحد غيره الاطلاع على التنظيم الخاص.

ولكن بعد عودة «حزب الوفد» إلى الحكم، ألغى مجلس الوزراء مواد قانون الأحكام العرفية الذي كان سارياً منذ حرب فلسطين، لذلك استأنفت الجماعة مزاولة نشاطها في فبراير 1950، كما أن هناك أسبابا ودوافع ومصالح سعت لإعادة تواجد الإخوان، فلم يكن الغرب سيقبل بنهاية التنظيم طالما المصالح لا تزال قائمة، ولأن القصر الملكي أيضاً كان يخشى من جماهيرية الوفد، فتم تدبير مرشح من خارج جماعة الإخوان تماما تنطبق عليه الأوصاف المطلوبة، وهو القاضي حسن الهضيبي، ولم تكن له علاقات أو أي نفوذ وصلات داخل التنظيم، وتم تنصيبه مرشداً للجماعة مطلع أكتوبر 1950 قبل انعقاد مجلس شورى الجماعة في 18 أكتوبر 1951، الذي أقر لاحقاً بانتخابه رسميا، وقيل أيضا إن البنا قد أوصى بعض المقربين في الجماعة بأن يخلفه صديقه الهضيبي، قائلاً: «لو حدث لي شيء واختلفتم إلى من يكون مرشدًا بعدي فاذهبوا إلى المستشار حسن الهضيبي فأنا أرشحه ليكون مرشداً بعدي».

وبعد فترة وجيزة من تولي الهضيبي المهمة، قام بغربلة التنظيم السري لإعادة تهيئته، وقام بالتواصل سريا مع الإنجليز والأمريكان للتآمر ضد مجلس الثورة، إذ عقد المرشد العام سلسلة من الاجتماعات السرية مع الوزير المفوض لدى السفارة البريطانية في القاهرة «تريفور إيفانز»، والتقى أعضاء من الإخوان مع ممثلي السفارة الأمريكية السيد بورديت وجرينجان، وبدأت تلك الاتصالات في أوائل الخمسينات، وخلال مرحلة سقوط الملكية وقيام مجلس الثورة، وعرض الهضيبي وجماعته على الأمريكان والإنجليز تقديم العديد من التنازلات والامتيازات فيما يخص قناة السويس في حال وصولهم إلى السلطة، وهو ما يدل على انتهازية الجماعة وفقدانها لأدنى قيم الوطنية، فعلى الرغم من أن ثورة 1952 أتت بحكومة تعادي الصهيونية، وعلى الرغم من جلاء الإنجليز، ومع ذلك استمرت الجماعة على نهجها السياسي وأبقت على تنظيمها السري، فماذا يعني ذلك سوى أن لديهم أطماعا في الوصول إلى السلطة حتى لو كان على حساب خيانة الوطن والحفاظ على مصالح الأعداء.

في تلك الفترة الشائكة، انشق الكثير من المعتدلين عن التنظيم، وكان من بينهم الشيخ محمد الغزالي وهو من الرعيل الأول لجيل الإخوان، واتهم حسن الهضيبي المرشد الثاني للإخوان بالماسونية، إذ قال الغزالي عن تولى الهضيبي لمنصب المرشد، في الطبعة الثانية من كتابه (من معالم الحق في كفاحنا الإسلامي): «استقدمت الجماعة رجلا غريبا عنها ليتولى قيادتها وأكاد أوقن بأن من وراء هذا الاستقدام أصابع هيئات سرية عالمية وقد سمعنا كلاما كثيرا عن انتساب البعض للماسون بينهم الأستاذ حسن الهضيبي نفسه لجماعة الإخوان، ولكن لا أعرف بالضبط كيف استطاعت هذه الهيئات الكافرة بالإسلام أن تخنق جماعة كبيرة على هذا النحو، وربما يكشف المستقبل أسرار هذه المأساة»، وأضاف: «إن الذين يحسبون أنفسهم جماعةَ المسلمين يرون مخالفة الأستاذ حسن الهضيبي ضرباً من مخالفة الله ورسوله، وطريقاً ممهدة إلى النار، وبئس القرار، وقد كنت أسير مع زميلي الأستاذ سيد سابق قريباً من شعبة المنيَل، فمر بنا اثنان من أولئك الشّبان المفتونين، وأَبيا إلاَّ إسماعنا رأيهم فينا، وهو أننا من أهل جهنم».

وينتقد الغزالي الفهم الخاطئ للإسلام من قبل البعض، فيقول عن الإخوان: «إنني تذكرت بعد أيام هذا العداء المر، والأوامر التي أوحت به، فعزَ علي أن يلعب بالإسلام وأبنائه بهذه الطريقة السمجة، وأن تتجدَّد سياسة الخوارج مرة أخرى، فيلعن أهل الإيمان ويترك أهل الطغيان، فمن المضحك أو المبكي أن يخطب الجمعة عقب فصلنا من المركز العام (للإخوان) من يؤكد أن الولاء للقيادة يكفر السيئات، وأن الخروج عن الجماعة يمحق الفضائل، وأن الذين نابذوا القيادة عادوا إلى الجاهلية الأولى، لأنهم خلعوا البيعة... ورئي الدكتور محمد يوسف موسى -أستاذ الشريعة الإسلامية بجامعة القاهرة- يخلُص بالخطيب جانباً، ليقول له: أي إسلام هذا؟ ومن من علماء الأولين والآخرين أفتى بهذا اللغو؟ وكيف تلبسون الدين هذا الزي المنكر».

ويؤكد المؤرخ الإخواني وعضو التنظيم السري عادل كمال في كتابه «النقط فوق الحروف» على الاتهامات الصريحة بماسونية عدد من قيادات الجماعة، إذ قال في الصفحة (49) من الكتاب، إنه بعد مقتل حسن البنا وخلال اجتماع الهيئة التأسيسية لتحديد المرشد الجديد، طلب عبدالرحمن الساعاتي شقيق حسن البنا والمراقب لعام لجماعة لإخوان ضرورة الاحتفاظ بلقب «البنا» على رأس جماعة الإخوان، وأكد أنه سيغير اسمه في حالة تعيينه مرشدا عاما من عبدالرحمن الساعاتي إلى «عبدالرحمن البنا»، وبرر ذلك برغبته في أن يبقى اسم البنا رمزا للجماعة، إلا أن الظروف فرضت عليهم تعيين حسن الهضيبي مرشدا عاما للإخوان، فظل محتفظا باسمه.



قطب.. المنظر المضطرب





سيد قطب، هو منظر جماعة الإخوان المسلمين وأحد أبرز أعضائها، ومر بتقلبات عجيبة في مراحل حياته الفكرية، ففي بداياته كان متأثراً بمدرسة عباس محمود العقاد الفكرية، ثم مر بمرحلة من الإلحاد والماسونية، إلى أن استقر على أن يكون المنظِّر الدموي لجماعة الإخوان.

وحين ابتعث قطب إلى الولايات المتحدة لدراسة التربية وأصول المناهج عام 1948، لم تكن له أدنى علاقة بالكتابة الدينية في ذلك الوقت، إذ كان مهتما بالنواحي الأدبية والفنية، وكان متحررا لدرجة أنه دعا في مقال له بعنوان «الشواطئ الميتة» بالأهرام في 27 مايو 1934 إلى إنشاء مستعمرة للعراة في مصر، وقال فيه «إن الذين يتصورون العري على الشاطئ في صورته البشعة الحيوانية المختلفة واهمون، وهم لم يذهبوا إلى الشاطئ، ولكن قرروا أو رأوا الصور منشورة في الصحف، أو ذهبوا وفي نيتهم أن ينتقدوا، فعاشوا في الصورة الخيالية المشوهة في أذهانهم، ولم يعيشوا على الشاطئ والأمواج»، مضيفاً بأن ليس في الجسم العاري على البلاج فتنة لمن يشاهده ويراه في متناول عينه كل لحظة، وفتن الأجسام هناك، وهي المنتشرة في الفستان، أما «المايوه» فهو لا يجذب ولا يثير، وإن أثار شيئا فهو الإعجاب الفني البعيد بقدر ما يستطاع عن النظرة المخوفة المرهوبة، وختم قطب مقاله، قائلاً: «اطلقوا الشواطئ عارية لاعبة، أيها المصلحون الغيورون على الأخلاق، فذلك خير ضمان لتهدئة الشهوات الجامحة، وخير ضمان للأخلاق».

وفي 23 أبريل 1943، نشر سيد قطب مقالاً عن فكره الملهم بالماسونية في صحيفة التاج المصري وهي صحيفة «ماسونية» ومخصصة للمنتسبين للمحفل الوطني الماسوني والشخصيات الماسونية، وكان عنوان المقال: «لماذا صرت ماسونياً؟»، وقال قطب في مقاله: «لقد صرت ماسونياً، لأنني كنت ماسونياً، ولكن في حاجة إلى صقل وتهذيب، فاخترت هذا الطريق السوي، لأترك ليد البناية الحرة مهمة التهذيب والصقل، فنعمت اليد ونعم البناؤون الأحرار».

وأضاف قطب: «عرفت أن الماسونية ليست مبدأ أو مذهبا يعتنق، وإنما هي الرجولة والإنسانية التي تدفع بالإنسان إلى عمل الخير دون وازع إلا وازع من وجدانه وضميره، هي روح عالية نبيلة تسمو بالإنسان عن الصغائر وتنزهه عن الترهات والسفاسف، هي المثل الأعلى لكل من ينشد كمالًا أو يبغي رفعة ومجدا، هي الفضيلة التي تنطوي على أسمى المعاني وأشرف المقاصد وأنبلها، هي مبدأ الكمال ومنتهاه، الماسونية هي الوحدة التي تجمع بين مختلف الأديان ولا تعرف للتحزب معنى، ولن تجد لكلمة التعصب مكانا في شرعها، هي التعويذة السحرية التي تؤلف بين القلوب جميعها في أقصى الشرق أو أدنى الغرب، هي المكان الوحيد الذي يستطيع فيه الجميع، الصغير منهم والكبير أن يتصافحوا مصافحة الأخ لأخيه، ويجلسوا جنبا إلى جنب، دون نظر إلى فارق اجتماعي أو مركز أدبي، ولا غرو في ذلك، إذ إن دعائمها وأسسها مشيدة على الحرية والإخاء والمساواة، فما أعظمها دعائم وما أقواها من أسس وما أبذلها من مبادئ».

وشكل ابتعاثه إلى الولايات المتحدة نقطة تحول خطيرة في حياته، إذ كانت فرصة ليتعرف على جماعة الإخوان المسلمين ومؤسسها حسن البنا هناك، إذ عكف على الدراسات الاجتماعية والقرآنية ووجد فيها نفسه بسبب استيائه من الغزو الفكري الأوروبي، كما رفض التصور الإسلامي عن الألوهية والإنسان والكون والحياة الذي كتبه ابن سينا والفارابي وابن رشد وغيرهم، لأنه رأى أن فلسفاتهم ما هي إلا ظلال للفلسفة الإغريقية، وعاد بعدها إلى مصر ليتحول في كتاباته من الأدب والفن إلى الكتابة في الدين، بل والجانب شديد التطرف في الدين فكان في ذهن قطب مشروع إسلامي يرى فيه ضرورة وجود طليعة إسلامية تقود البشرية، ومن هنا وجد همزة الوصل بينه وبين الإخوان المسلمين فكان كتاب «العدالة الاجتماعية في الإسلام» الذي قدمه للجماعة في الإهداء قائلاً: «إلى الفتية الذين ألمحهم في خيالي قادمين يردون هذا الدين جديدا كما بدأ.. يقاتلون في سبيل الله فيقتلون ويُقتلون»، وانعكس تطرفه الديني على أشده في كتابيه اللذين صدرا بعد عودته لمصر، وهما «معالم في الطريق» و«في ظلال القرآن».

ويؤكد عدد من قيادات جماعة الإخوان المسلمين، فساد عقيدة سيد قطب بعد أن عاد من أمريكا وأصبح منظر الجماعة وأمير التكفير، ووفقاً لما أوضحوه في كتبهم، لم يكن سيد قطب يصلي صلاة الجمعة، زاعما بأنها سقطت بسقوط الخلافة، وذكر على العشماوي، آخر قائد للتنظيم السري في الجماعة، في كتابه الشهير (التاريخ السري لجماعة الإخوان المسلمين)، «كان سيد قطب لا يصلي الجمعة.. وقد علمت ذلك مصادفة حين ذهبت إليه دون موعد.. وكانت بيننا مناقشة ومشادة حامية وأردت أن أهدئ الموقف، فقلت له هيا إلى صلاة الجمعة.. وقد فوجئت حين قال لي «إن صلاة الجمعة تسقط إذا سقطت الخلافة ولا جمعة بلا خلافة» وكان هذا الرأي غريبا عليّ ولكني قبلت على اعتبار أنه أعلم مني. وقال الشيخ محمد الغزالي في كتابه «من معالم الحق»، إن سيد قطب منحرف عن طريقة حسن البنا، وإنه بعد مقتل المرشد الأول، وضعت الماسونية زعماء لحزب الإخوان المسلمين، وقالت لهم ادخلوا فيهم لتفسدوهم، وكان منهم «سيد قطب».

وقد اعترف سيد قطب بعد ذلك في السجن «أن زيارته لأمريكا كانت وليدة تخطيط أمريكي، ولم يكن يدري أنها جزء من رهان أمريكي، أي أنها نتيجة تخطيط استخباراتي لتجنيده»، كما اعترف أيضاً بأنه وقع تحت إغراء الأوساط الأمريكية بكل الوسائل، وإن لم يسقط في شباكها.

في الحلقة القادمة
  • فكر الإخوان الملهم بـ«الحشاشين»
  • حسن الصباح في حياة الإخوان
  • جذور العمليات الانتحارية في عقيدة الإخوان