في صغري كنت عادة أقضي إجازة الصيف بمدرسة داخلية بمدينة لوزان السويسرية. وهناك تعرفت على إحدى المعلمات الكنديات وتوطدت علاقتنا وظللنا أصدقاء رغم فارق العمر الشاسع ورغم انقضاء السنوات، فهي من الشخصيات الفرفوشة التي لا تشعرك بأنها من جيل آخر ولدينا الكثير من الاهتمامات المشتركة. وكنا نتراسل بالبريد ثم أصبحنا نتراسل بالإيميل وكنت كلما أذهب إلى سويسرا أحرص على رؤيتها ولو لشرب كوب قهوة فهي من الأشخاص الإيجايبين والمسلين جدا.
وكنت كل مرة أراها أتحسر على السيدات المتقدمات بالعمر لدينا. فصديقتي هذه الآن على الأقل في نهايات الستينات أو بدايات السبعينات من عمرها، تأتي لرؤيتي على دراجة رياضية، بملابس جميلة زاهية وحذاء رياضي وكل مرة أراها أجدها تمارس هواية جديدة أو تتعلم شيئاُ جديداً أو لديها أصدقاء جدد. حياتها عبارة عن كرنفال ألوان وآكشن ماشاء الله فهي لا تتوقف عن الضحك والحركة والتمتع بالحياة. نجلس سويا لتتحدث معي عن آخر رحلاتها وتريني صورها: مرة على ظهر فيل في سيريلانكا، ومرة على قمم الهملايا، ومرة مدفونة في الرمل إلى رأسها في رمال الموريشيوس. تحدثها في أي مجال فتجدها ملمة به أو مهتمة به: من أخبار عالمية إلى آخر الكتب إلى الفنون إلى الهوايات. تريني صور حفلاتها وأعمالها الفنية ومشاركاتها الإنسانية مع جمعيات الأيتام حول العالم في الهند ونيبال وتخيط الثياب لأيتام العالم الثالث، تهتم بحديقتها وتحدثني بحماس عن آخر الأزهار التي حاولت زراعتها وكيف أنها اضطرت لحمل كيس تراب مخصوص على ظهرها لتغذية زهراتها العزيزات. وحينما نلتقي نتقاسم أنا وهي أحيانا قطعة جاتوه واحدة فهي تحرص جداً على وزنها وتقول لي إنها دائما تقوم من الطاولة وهي مازالت جائعة لأن أكثر شيء يخيفها هو السمنة والأمراض. لم تعمل عملية تجميل واحدة وإنما تهتم بنفسها وتؤمن بأنها يجب أن تتقبل التجاعيد والشعر الأبيض في كبرها مثلما تقبلت حب الشباب في مراهقتها.
لم أسمعها ربما أبداً تشكو من المرض رغم أنها تعاني من بعض الاضطرابات الصحية، ولا تشكو من المادة رغم أنها تعيش على التقاعد، ولكنني أكاد أجزم بأن نظرتها المتفائلة للدنيا سبب سعادتها وصحتها. لديها أصدقاء من كافة أصقاع العالم، فتريني حقيبتها المطبوعة بأزهار التيوليب وتقول لي هذه من صديقتي الهولندية، وبالمناسبة لو تريدين زيارة هولندا فيجب أن تقابليها ولو ذهبت إلى بلجيكا سأعطيك عنوان صديقة أخرى ولديها أخت في اليابان زرتها أيضا ولديهم أصدقاء رائعون في أمريكا الجنوبية وهم من أصل لبناني وأكلت لديهم أطيب تبولة وألذ حمص، ومن خلالهم تعرفت على أصدقاء آخرين زرتهم في أستراليا ولهم أقارب بأفريقيا الجنوبية ودعوني لبيتهم وأنت تعرفين أنني لا أبالي أن أنام على صوفا في منزل أصدقائي فالمهم عندي المرح والرفقة الطيبة.
وأذكر جيدا ذات مرة حينما قابلت هذه الصديقة في كافيه وتحدثنا لمدة ساعتين جميلتين من الزمن، أشعرتني خلالها بأن الحياة «بمبي» خرجت وأنا منشرحة أغني لإديث بياف «لا في آن روز» وإذا بي أقابل في نفس الكافيه صديقة لي ووالدتها قادمتين من ربوع بلادي، فدعتاني للجلوس فجلست وأنا في حالة النيرفانا تلك، وسرعان ما عالجتني والدة صديقتي (وهي بالمناسبة أصغر من صديقتي الكندية سناً) بأخبارها:
«ركبي توجعني، ومفاصلي ملتهبة، وشغالتي كسلانة معذبتني، واللي تطبخ هربت، ويوم قررنا نسافر ونغير جو ضربت مواسير الماء ببيتنا وغرق الدور الأرضي، وأول ما وصلنا المطار انسرقت شنطتي، وبعدها أسمع خبر أختي اللي كسرت حوضها ودخلت المستشفى، وابن خالي انصدم بالسيارة وفي العناية المركزة، وأكلت سمك وثارت علي الحساسية. أكيد أكيد أحد «ضاربنا عين» على سفرتنا هذه! ما هم عارفين إنني يادوب بأمشي بالدف، غير ضرسي المتورم اللي لازم أخلعه»، ولم تتردد لحظة في فتح فمها كاملا واسعا وتركه مفتوحا لفترة كافية تأكدت خلالها أنني رأيت بأم عيني ضرسها المضروب.
خرجت مهرولة وأنا أقارن بين هذه النظرة للحياة وتلك، ولكن ماذا أقول؟ إنه اختلاف ثقافات لا أكثر!
الحياة تبدأ بعد الستين
4 أغسطس 2016 - 21:13
|
آخر تحديث 4 أغسطس 2016 - 21:13
تابع قناة عكاظ على الواتساب